بودرة
من مفارقات الأيام أن يغتسلَ الإنسان بماء النهر مرتين، مع أنَّ هيراقليطس أكد أننا لن نغتسل بماء النهر إلا مرَّة واحدة..
لنعد إلى طفولة كلّ منا، لنتذكر مالم نستطع نسيانه منها.. بعُد الزمان أو قرب..
أذكر أنني عملت أثناء العطلة الصيفية التي أعقبت الصف الخامس الابتدائي لدى صيدلاني حارتنا، وكان
يملك مستودعاً صغيراً خلف الصيدلية.. عملت مع ثلاثة أطفال آخرين بـ«البودرة»..
كنا نأتي في الصباح الباكر ولا نخرج إلا بعد أن نكون قد أنهينا الكمية
التي وُضعت أمامنا من البودرة.. لكلٍّ منا ميزانه الصغير الذي يزِن به
وزناً محدّدا، نضعه في كيس، ثم نضع الكيس في علبة ونلصقها لتصبح جاهزة
للبيع.
تخيَّلوا.. نعبِّئ البودرة التي تلطف أجساد البشر، ولكننا كنا نخرج مساءً
وقد انحنت ظهورنا، وتلوَّثت ثيابنا ووجوهنا، وتنمَّلت أطرافنا من التعب..
هل تخيَّلتم أن تكون البودرة الناعمة أكثر قسوة على الأطفال من أيّ شيء
آخر..
أقسى من النصف ليرة التي كنا نأخذها أسبوعياً أجرة عملنا؟!..
المهم، نهر الزمن مازال جارياً ومازلنا جميعاً نغتسل من مائه.. حقاً،
أتذكر «البودرة الناعمة» وأنا الآن أنحني على أوراقي لأكتب كلمات أحاول من
خلالها أن أدلّ قلبي إلى الناس، وأن أدلّ قلبي إلى قلبي..
أحاول أن أعيش مع ميزان صغير أزِن فيه كلَّ كلمة، وكلَّ تصرف.. بصدق،
بعفوية، بإحساس مفعم بالحب.. لكنَّ الكلمة بدت لي (بنعومتها) أشبه
بالبودرة.. يمكن ببساطة أن تؤذي ظهري وعينيَّ وقلبي وروحي..
ألم أقل لكم إنَّ الإنسان يمكن أن يغتسل بماء النهر مرتين..
وإلا لماذا تفيض عيوننا بالدمع كلما تذكرنا؟..
أليس هو الماء نفسه في النهاية؟!!.
للأستاذ أحمد تيناوي
من مفارقات الأيام أن يغتسلَ الإنسان بماء النهر مرتين، مع أنَّ هيراقليطس أكد أننا لن نغتسل بماء النهر إلا مرَّة واحدة..
لنعد إلى طفولة كلّ منا، لنتذكر مالم نستطع نسيانه منها.. بعُد الزمان أو قرب..
أذكر أنني عملت أثناء العطلة الصيفية التي أعقبت الصف الخامس الابتدائي لدى صيدلاني حارتنا، وكان
يملك مستودعاً صغيراً خلف الصيدلية.. عملت مع ثلاثة أطفال آخرين بـ«البودرة»..
كنا نأتي في الصباح الباكر ولا نخرج إلا بعد أن نكون قد أنهينا الكمية
التي وُضعت أمامنا من البودرة.. لكلٍّ منا ميزانه الصغير الذي يزِن به
وزناً محدّدا، نضعه في كيس، ثم نضع الكيس في علبة ونلصقها لتصبح جاهزة
للبيع.
تخيَّلوا.. نعبِّئ البودرة التي تلطف أجساد البشر، ولكننا كنا نخرج مساءً
وقد انحنت ظهورنا، وتلوَّثت ثيابنا ووجوهنا، وتنمَّلت أطرافنا من التعب..
هل تخيَّلتم أن تكون البودرة الناعمة أكثر قسوة على الأطفال من أيّ شيء
آخر..
أقسى من النصف ليرة التي كنا نأخذها أسبوعياً أجرة عملنا؟!..
المهم، نهر الزمن مازال جارياً ومازلنا جميعاً نغتسل من مائه.. حقاً،
أتذكر «البودرة الناعمة» وأنا الآن أنحني على أوراقي لأكتب كلمات أحاول من
خلالها أن أدلّ قلبي إلى الناس، وأن أدلّ قلبي إلى قلبي..
أحاول أن أعيش مع ميزان صغير أزِن فيه كلَّ كلمة، وكلَّ تصرف.. بصدق،
بعفوية، بإحساس مفعم بالحب.. لكنَّ الكلمة بدت لي (بنعومتها) أشبه
بالبودرة.. يمكن ببساطة أن تؤذي ظهري وعينيَّ وقلبي وروحي..
ألم أقل لكم إنَّ الإنسان يمكن أن يغتسل بماء النهر مرتين..
وإلا لماذا تفيض عيوننا بالدمع كلما تذكرنا؟..
أليس هو الماء نفسه في النهاية؟!!.
للأستاذ أحمد تيناوي