تفاعلت قضية وفاة الطفلين خديجة كسار (25 يوماً) ومحمد كسار (3 سنوات) من سكان مدينة الباب في حلب، منذ شهر وحتى الآن- وهي القضية التي شغلت الرأي العام في سورية، وتناقلتها وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية كلّها، دون أيّ توضيح من الجهات الرسمية. إلا أنَّ القضية لم تنته بعد، والتحقيق فُتح مرة أخرى، والبحث مازال جارياً حتى اللحظة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة- وهو السبب نفسه الذي أدَّى إلى التشهير وإلحاق خسائر كبيرة بواحدة من أهم منشآت صناعة المرتديلا في سورية.
لن نتدخل في عمل الجهات المختصة، ولن نطلق أحكاماً قطعية حتى انتهاء التحقيقات القضائية. ولكن، من خلال الوثائق التي بين أيدينا ومحاضر الضبوط التي حرّرها مركز شرطة مدينة الباب، يمكننا الوقوف على العديد من المفارقات في تسلسل الوقائع، أقلّها (وأكثرها حرقاً للأعصاب) عدم وجود مخابر للتشريح في محافظة حلب «الشهباء» أو لجنة غذائية تستطيع تتبّع مصدر الإصابة كي تساعد التحقيق على الوصول إلى نتيجة أكيدة حول سبب وفاة الطفلين، بالإضافة إلى تسمّم عائلة كسار مرتين خلال 20 يوماً؛ في المرة الأولى ادّعت على صاحب معمل مرتديلا «هنا»، وفي الثانية ادّعت على الحدث عبد الله أمين لطيفو، الذي وضع مواد تعقيم سامة في مخزن حبوب ملاصق لجدار منزل العائلة المنكوبة.
تسمّم غريب
تناولت عائلة (كسار) الغداء يوم الجمعة (2/10/2009). وبعد ثلاث ساعات، شعرت الأم وأطفالها بحالة إقياء وإسهال (فظنَّ الأب عماد كسار أنها أعراض البرد)، فأعطاهم الأدوية الموجودة وسقاهم الكمون. إلا أنَّ الأعراض تضاعفت مساءً وازدادت حالات الإسهال وأعراض المرض على الأسرة، ولاسيما خديجة الرضيعة، التي أُسعفت إلى المستشفى الوطني في مدينة الباب، إلا أنها فارقت الحياة قبل وصولها إلى العناية المشددة، وذلك في الساعة الواحدة من صباح يوم السبت الموافق لـ3 من تشرين الأول.
دُفنت الطفلة خديجة يوم السبت دون أيّ ادعاء أو إعلام للسلطات كونها حديثة الولادة، إلا أنَّ الأعراض عادت إلى أخويها (محمد وقصي) وأمهما؛ ما استدعى نقلهم إلى المستشفى مرة أخرى، حيث ساءت صحة الطفل محمد وتوفي بعد ساعتين من وصوله المستشفى. وهكذا لم يبقَ لعماد كسار من أولاده الثلاثة على قيد الحياة سوى قصي، فقرّر نقله وأمه إلى مستشفى الحميات. ومن هناك تحوّلا إلى مستشفى الأطفال الحكومي، حيث شخّص الأطباء حالتهما بالتسمم الغذائي، وقيل له: «ابنك مصاب بجرثومة خطرة». إلا أنَّ القدر أبقى قصي وأمه على قيد الحياة وخُرّجا بعد ثلاثة أيام بصحة جيدة. ومن المفيد هنا المرور على إفادة محمد كسار خزمة (جد الطفلين المتوفين)، والذي يقول في محضر الشرطة رقم 1901: «لا أعلم ما هو سبب حالة التسمم بالضبط؛ أهو تسمم غذائي أم مبيد حشري؟».
سبب الوفاة
سبب وفاة خديجة ومحمد هو الذي أشعل فتيل الأزمة وأحدث جدلاً واسعاً في الوسط الإعلامي، حيث أفاد الأب والأم في ضبط الشرطة رقم 1901 بأنَّ الأسرة تناولت الباذنجان باللبن يوم الإصابة بالمرض (الجمعة 2/10/2009)، وقبل يوم من الإصابة (الخميس 1/10/2009) تناولت الأسرة، باستثناء الأب، علبة (مرتديلا هنا) ابتاعها الطفل محمد من محل عمّه السمان خالد كسار. وجاء في تقرير الطبيب الشرعي أنَّ الوفاة ناتجة عن تسمم جرثومي غذائي (تسمم وشيقي)، إلا أنَّ التقرير اعتمد على شهادة الأهل وأطباء الإسعاف فقط ولم يصر إلى تشريح جثتي الطفلين؛ يقول الطبيب الشرعي محمد علي عابو: «ليس لدينا مخابر عالية المستوى للتشريح في حالات التسمم الغذائي، بل نعتمد على المرافقين والشهود وتشخيص الأطباء».
يوم الأربعاء (7/10/2009) صادرت الجهات المختصة 5 علب مرتديلا من نفس الطرد الموجود في محل السمان عماد كسار (الذي باع علبة المرتديلا لابن أخيه محمد) وأرسلتها إلى مخابر مديرية التجارة والتموين في حلب لتحليلها والتأكد من صحة الادعاء. ولكن، قبل صدور نتائج التحليل، نشرت جريدة الجماهير المحلية بتاريخ 17/10/2009 خبراً مفاده أنَّ وفاة الطفلين خديجة ومحمد كسار ناتج عن تسمم غذائي بعد تناول علبة المرتديلا. وهذا ما دحضه تحليل مخبر مديرية التجارة والاقتصاد في حلب، حيث بيَّنت نتائج التحليل، الذي صدر في اليوم التالي من نشر الخبر (18/10/2009)، أنَّ علبة مرتديلا «هنا» المصادرة من نفس السمان الذي باع الطفل المتوفى مطابقةٌ للمواصفات القياسية السورية وخاليةٌ من أيّ سموم. ويقول السمان خالد خزمة كسار في ضبط الشرطة رقم 1901 إنه باع 4 علب مرتديلا أخرى لعدة أشخاص مجهولين من نفس الطرد ولم تُسجّل أيّ إصابة بحالة تسمم حتى الآن. ويبيّن ضبط الشرطة المحوّل إلى القضاء أنه لم ترد أيّ حالة تسمم مشابهة.
مديرية الشؤون الصحية في محافظة حلب أرسلت 4 علب مرتديلا أخرى انتُقيت بشكل عشوائي من أصل 5 آلاف علبة مرتديلا سُحبت من الأسواق، وتبيَّن أنَّ العينة الأولى مطابقة للمواصفات القياسية السورية 2179/2007 وصالحة للاستهلاك البشري، وعلى العكس العينات الثلاث الأخرى (غير مطابقة وغير صالحة وإحداها منفجرة). وهنا يستخفّ المهندس الكيميائي في الشركة التقنية للصناعات الغذائية (هنا) بنتيجة هذا التحليل؛ ذلك أنَّ مديرية الشؤون الصحية انتقت عينات مرتجعة وغير معدة للبيع أو التداول أصلاً، بسبب ما تعرّضت له من سوء للتخزين أو التحميل، وهي علب موجودة بقصد الإتلاف ولا يمكن لعاقل أن يتناول علبة مرتديلا منفجرة فرائحتها كريهة ومحتواها فاسد، حيث قامت مديرية الشؤون الصحية بتحليل تلك العينات لتصل إلى ما وصلت إليه من نتائج أعلنتها بشكل مباشر عبر وسائل الإعلام، دون أن تدع أيَّ مجال للشركة في إعادة تحليل عينات جديدة تحمل ذات تاريخ الإنتاج والصلاحية والدفعة لذات العبوات المرتجعة التي جرى ضبطها.
نقطة التحول
جاءت المفاجأة بعد 15 يوماً من حادثتي الوفاة (أي في 21/10/2009) وبعد يومين من براءة مرتديلا هنا (حسب تحليل مخبر مديرية التجارة والاقتصاد في حلب رقم الشهادة 4450)، حيث تعرَّضت الأسرة ذاتها إلى حالة تسمم أخرى ترافقت مع نفس الأعراض في حالة التسمم الأولى من إقياء وإسهال (وهذه المرة لم يتناولوا مرتديلا هنا). وادّعوا، بموجب ضبط الشرطة رقم 2017، على عبد الله أمين لطيفو (صاحب الحبوب التي عولجت بـ»حبة الغاز» في مخزن بجوار منزلهما)، حيث أقدم على تعقيم الحبوب بمبيد حشري يُدعى «كويك فوس» يحتوي مادة فوسفيد الألمنيوم ويطلق عليه شعبياً اسم «حبة الغاز». وجاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية أنَّ الغاز الذي يُطلقه فوسفيد الألمنيوم عند تماسه مع الرطوبة الجوية له قدرة عالية على اختراق الجدران البيتونية غير المدهونة وتأثيره خطر على الإنسان. ومن أعراض استنشاق هذا الغاز حدوث إعياء وغثيان وألم في المعدة ورغبة في التقيؤ وإسهال وعطش.. وإذا كانت الإصابة شديدة قد تؤدي إلى الوفاة. وتعتبر هذه الأعراض مطابقة تماما لأعراض التسمم الغذائي. ويقول الطبيب الشرعي محمد علي عابو: «ليس هنالك فرق بين التسمم بالمبيد الحشري (فوسفيد الألمنيوم) وبين التسمم الغذائي، فالأعراض متشابهة وهي إقياء وإسهال وغثيان وألم في المعدة وعطش». ويضيف عابو: «سبب التسمم في المرة الثانية هو غالباً نفسه سبب وفاة الطفلين».
ويقول محامي العائلة طلال العابو: «إنَّ حالة تسمّم العائلة للمرة الثانية (أي بعد وفاة الطفلين بـ15 يوماً) أدَّت إلى فتح التحقيق من جديد والعودة إلى الضبط الأول للتأكد من سبب الوفاة في الحالة الأولى، لاسيما أنَّ صاحب المخزن يقوم برشّ الحبوب بالسموم بهدف التعقيم منذ أكثر من شهرين».
الدكتور دارم الطباع (أستاذ الصحة في كلية الطب البيطري في جامعة البعث) يقول: «من الصعب أن تؤدي المرتديلا إلى تسمم غذائي بهذه السرعة، وإلى موت الطفلين خلال يوم أو يومين». ويضيف: «أنا كنت في حلب خلال الحادثة، واطلعت على التقرير، وكلّ الدلائل تشير إلى ابتعاد الشبهات عن التسمم بالمرتديلا وتحوّلها إلى التسمم بالمبيد الحشري».
من جهته يقول الطبيب محمد القصيم (الاختصاصي في الرقابة الغذائية): «هناك خطأ واضح في تشخيص الطبيب المعالج، بأنَّ حالة الوفاة ناجمة عن تسمم جرثومي وشيقي من ناحية أعراض الإقياء والإسهال؛ فالانسمام الوشيقي من أهم أعراضه شلل الأمعاء والتسسممات العصبية لعضلات العين وعضلة الحجاب الحاجز. وإذا كان التشخيص بوجود تسمم وشيقي صحيح لا يحدث إقياء وإسهال».
وحول عدم تأكد الأطباء من سبب التسمم، يقول الدكتور طباع: «للأسف، تقصّي التسممات الغذائية لم يتطوَّر بعد في سورية. وبناءً على القانون رقم 7 يجب أن يكون هناك فريق غذائي يتتبع مصدر الإصابة ولا يجوز أخذ حكم من خلال التشخيص الأولي أو معلومات أهل المصاب. لكن الأهم والأخطر هو موضوع انتشار مادة فوسفيد الألمنيوم السامة وانتشارها في الصيدليات الزراعية، حيث تباع كسم للقوارض والحشرات دون رقابة صحية».
وفي إحصائية غير رسمية، ظهر أنَّ سموم حبة الغاز (فوسفيد الألمنيوم)، التي تستخدم في مخازن الحبوب المنتشرة في الأقبية والمحلات ضمن المباني السكنية وحتى داخل البيوت المخصصة للسكن، قتلت خلال السنوات الخمس الماضية في محافظة حلب وحدها أكثر من 65 شخصاً.
يُذكر أنَّ حالةً مشابهة حصلت في السعودية العام الفائت، حيث قُتل طفلان وتسمَّم ثمانية آخرون، واشتُبه بأنه تسمّم غذائي.. إلا أنَّه بعد تشكيل لجنة من الأطباء والخبراء والطب الشرعي وشعبة الطب الوقائي، تمَّ التوصل، بعد ساعات فقط، إلى تعرّض الأسرة إلى استنشاق مادة كيميائية سامة (ناتجة عن مبيد حشري) تسرَّبت عن طريق أنابيب الصرف الصحي.
تشهير
سامر ديروان (مدير الشركة التقنية للصناعات الغذائية) يقول: «نحن نطالب بإيضاح كلّ ملابسات الأمور وكيفية حدوث حالتي الوفاة اللتين اختزلتا بالتسمم الغذائي بعلبة مرتديلا؛ ذلك أنَّ الخبر نشر في جريدة الجماهير المحلية في حلب دون التأكد من نتائج التحليل، بل اعتمد فقط على تقرير الطبيب الشرعي الذي وصف الحالة بأنها تسمم غذائي دون تشريح الجثة؛ ما أدَّى إلى خسائر تُقدَّر بـ150 مليون ليرة سورية، بالإضافة إلى إلغاء عقدي تصدير إلى ليبيا والسعودية. وهذا اختراق لقانون المطبوعات، وينطوي تحت بند التشهير دون دلائل حقيقية وقبل صدور النتائج النهائية للتحقيق».
طلال العابو (محامي العائلة)، قال: «نحن لا نتّهم أحداً حتى ظهور نتائج التحقيقات، وسندّعي على المسبب بغضّ النظر أكان المرتديلا أم المبيد الحشري. لكنّ المشكلة أنَّ الأعراض متشابهة ولم يكشف حتى الآن السبب الحقيقي للوفاة؛ فالتحليل المخبري لعينة المرتديلا جاء سليماً، بينما شخّص الأطباء في المستشفى الوطني في مدينة الباب حالة الوفاة بأنها ناتجة عن تسمم غذائي. أما في حالة التسمم الثانية، فقد بيَّن الأطباء أنها ناتجة عن مادة فوسفيد الألمنيوم المستخدمة في تعقيم الحبوب إلى جوار منزل العائلة».
وكانت وزارة الاقتصاد قد قامت بإجراء ثلاثة عشر تحليلاً لعينات المرتديلا المضبوطة من قبل النيابة العامة في مدينة حلب، كان منها خمسة تحليلات في المخبر المركزي في دمشق وثمانية أخرى في مخبر الوزارة في حلب. وبحسب مازن ديروان (عضو مجلس الإدارة في الشركة التقنية للصناعات الغذائية) فإنَّ جميع التحليلات التي أجرتها الوزارة أثبتت توافقها مع المواصفات والمقاييس. ويدعو ديروان إلى ضرورة تنبه المعنيين في الشأن الاقتصادي من تجربة شركته وما تعرّضت له من سوء؛ كيلا تقع شركات أخرى تختصّ بالصناعة الغذائية في أزمة مماثلة. كما عبَّر ديروان عن أسفه لإدانة شركته قبل إثبات صحة الادعاءات.
قامت العديد من وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية بإطلاق الأحكام وتوزيع الاتهامات جزافاً منذ إعلان الوفاة الأولى وإعلان التقرير الشرعي الأول. إلا أنه لا يمكن الحكم على القضية قبل ظهور نتائج التحقيقات النهائية.
وفي نظرة سريعة إلى مجريات الأحداث الدراماتيكية، وبحسب إفادات المدعين والشهود والأطباء، وبالنظر إلى حالتي التسمم خلال أقل من شهر والأعراض المتطابقة للتسمم الثاني المؤكد بالمبيد الحشري والتسمم الأول المستند إلى تشخيص أطباء الإسعاف دون تشريح جثتي الطفلين، يمكننا التوجه إلى وزارة الصحة بعد كل ذلك والقول: لو امتلكنا مختبراً حقيقياً لكشف أسباب الوفاة في ثاني أكبر مدينة سوريّة، ولو تعامل الأطباء بشكل علمي ومسؤول أكثر وكشفوا سبب التسمم الحقيقي (الذي لم يُكشف حتى الآن)، لما وصلنا إلى هنا منذ اليوم الأول للقضية.
لن نتدخل في عمل الجهات المختصة، ولن نطلق أحكاماً قطعية حتى انتهاء التحقيقات القضائية. ولكن، من خلال الوثائق التي بين أيدينا ومحاضر الضبوط التي حرّرها مركز شرطة مدينة الباب، يمكننا الوقوف على العديد من المفارقات في تسلسل الوقائع، أقلّها (وأكثرها حرقاً للأعصاب) عدم وجود مخابر للتشريح في محافظة حلب «الشهباء» أو لجنة غذائية تستطيع تتبّع مصدر الإصابة كي تساعد التحقيق على الوصول إلى نتيجة أكيدة حول سبب وفاة الطفلين، بالإضافة إلى تسمّم عائلة كسار مرتين خلال 20 يوماً؛ في المرة الأولى ادّعت على صاحب معمل مرتديلا «هنا»، وفي الثانية ادّعت على الحدث عبد الله أمين لطيفو، الذي وضع مواد تعقيم سامة في مخزن حبوب ملاصق لجدار منزل العائلة المنكوبة.
تسمّم غريب
تناولت عائلة (كسار) الغداء يوم الجمعة (2/10/2009). وبعد ثلاث ساعات، شعرت الأم وأطفالها بحالة إقياء وإسهال (فظنَّ الأب عماد كسار أنها أعراض البرد)، فأعطاهم الأدوية الموجودة وسقاهم الكمون. إلا أنَّ الأعراض تضاعفت مساءً وازدادت حالات الإسهال وأعراض المرض على الأسرة، ولاسيما خديجة الرضيعة، التي أُسعفت إلى المستشفى الوطني في مدينة الباب، إلا أنها فارقت الحياة قبل وصولها إلى العناية المشددة، وذلك في الساعة الواحدة من صباح يوم السبت الموافق لـ3 من تشرين الأول.
دُفنت الطفلة خديجة يوم السبت دون أيّ ادعاء أو إعلام للسلطات كونها حديثة الولادة، إلا أنَّ الأعراض عادت إلى أخويها (محمد وقصي) وأمهما؛ ما استدعى نقلهم إلى المستشفى مرة أخرى، حيث ساءت صحة الطفل محمد وتوفي بعد ساعتين من وصوله المستشفى. وهكذا لم يبقَ لعماد كسار من أولاده الثلاثة على قيد الحياة سوى قصي، فقرّر نقله وأمه إلى مستشفى الحميات. ومن هناك تحوّلا إلى مستشفى الأطفال الحكومي، حيث شخّص الأطباء حالتهما بالتسمم الغذائي، وقيل له: «ابنك مصاب بجرثومة خطرة». إلا أنَّ القدر أبقى قصي وأمه على قيد الحياة وخُرّجا بعد ثلاثة أيام بصحة جيدة. ومن المفيد هنا المرور على إفادة محمد كسار خزمة (جد الطفلين المتوفين)، والذي يقول في محضر الشرطة رقم 1901: «لا أعلم ما هو سبب حالة التسمم بالضبط؛ أهو تسمم غذائي أم مبيد حشري؟».
سبب الوفاة
سبب وفاة خديجة ومحمد هو الذي أشعل فتيل الأزمة وأحدث جدلاً واسعاً في الوسط الإعلامي، حيث أفاد الأب والأم في ضبط الشرطة رقم 1901 بأنَّ الأسرة تناولت الباذنجان باللبن يوم الإصابة بالمرض (الجمعة 2/10/2009)، وقبل يوم من الإصابة (الخميس 1/10/2009) تناولت الأسرة، باستثناء الأب، علبة (مرتديلا هنا) ابتاعها الطفل محمد من محل عمّه السمان خالد كسار. وجاء في تقرير الطبيب الشرعي أنَّ الوفاة ناتجة عن تسمم جرثومي غذائي (تسمم وشيقي)، إلا أنَّ التقرير اعتمد على شهادة الأهل وأطباء الإسعاف فقط ولم يصر إلى تشريح جثتي الطفلين؛ يقول الطبيب الشرعي محمد علي عابو: «ليس لدينا مخابر عالية المستوى للتشريح في حالات التسمم الغذائي، بل نعتمد على المرافقين والشهود وتشخيص الأطباء».
يوم الأربعاء (7/10/2009) صادرت الجهات المختصة 5 علب مرتديلا من نفس الطرد الموجود في محل السمان عماد كسار (الذي باع علبة المرتديلا لابن أخيه محمد) وأرسلتها إلى مخابر مديرية التجارة والتموين في حلب لتحليلها والتأكد من صحة الادعاء. ولكن، قبل صدور نتائج التحليل، نشرت جريدة الجماهير المحلية بتاريخ 17/10/2009 خبراً مفاده أنَّ وفاة الطفلين خديجة ومحمد كسار ناتج عن تسمم غذائي بعد تناول علبة المرتديلا. وهذا ما دحضه تحليل مخبر مديرية التجارة والاقتصاد في حلب، حيث بيَّنت نتائج التحليل، الذي صدر في اليوم التالي من نشر الخبر (18/10/2009)، أنَّ علبة مرتديلا «هنا» المصادرة من نفس السمان الذي باع الطفل المتوفى مطابقةٌ للمواصفات القياسية السورية وخاليةٌ من أيّ سموم. ويقول السمان خالد خزمة كسار في ضبط الشرطة رقم 1901 إنه باع 4 علب مرتديلا أخرى لعدة أشخاص مجهولين من نفس الطرد ولم تُسجّل أيّ إصابة بحالة تسمم حتى الآن. ويبيّن ضبط الشرطة المحوّل إلى القضاء أنه لم ترد أيّ حالة تسمم مشابهة.
مديرية الشؤون الصحية في محافظة حلب أرسلت 4 علب مرتديلا أخرى انتُقيت بشكل عشوائي من أصل 5 آلاف علبة مرتديلا سُحبت من الأسواق، وتبيَّن أنَّ العينة الأولى مطابقة للمواصفات القياسية السورية 2179/2007 وصالحة للاستهلاك البشري، وعلى العكس العينات الثلاث الأخرى (غير مطابقة وغير صالحة وإحداها منفجرة). وهنا يستخفّ المهندس الكيميائي في الشركة التقنية للصناعات الغذائية (هنا) بنتيجة هذا التحليل؛ ذلك أنَّ مديرية الشؤون الصحية انتقت عينات مرتجعة وغير معدة للبيع أو التداول أصلاً، بسبب ما تعرّضت له من سوء للتخزين أو التحميل، وهي علب موجودة بقصد الإتلاف ولا يمكن لعاقل أن يتناول علبة مرتديلا منفجرة فرائحتها كريهة ومحتواها فاسد، حيث قامت مديرية الشؤون الصحية بتحليل تلك العينات لتصل إلى ما وصلت إليه من نتائج أعلنتها بشكل مباشر عبر وسائل الإعلام، دون أن تدع أيَّ مجال للشركة في إعادة تحليل عينات جديدة تحمل ذات تاريخ الإنتاج والصلاحية والدفعة لذات العبوات المرتجعة التي جرى ضبطها.
نقطة التحول
جاءت المفاجأة بعد 15 يوماً من حادثتي الوفاة (أي في 21/10/2009) وبعد يومين من براءة مرتديلا هنا (حسب تحليل مخبر مديرية التجارة والاقتصاد في حلب رقم الشهادة 4450)، حيث تعرَّضت الأسرة ذاتها إلى حالة تسمم أخرى ترافقت مع نفس الأعراض في حالة التسمم الأولى من إقياء وإسهال (وهذه المرة لم يتناولوا مرتديلا هنا). وادّعوا، بموجب ضبط الشرطة رقم 2017، على عبد الله أمين لطيفو (صاحب الحبوب التي عولجت بـ»حبة الغاز» في مخزن بجوار منزلهما)، حيث أقدم على تعقيم الحبوب بمبيد حشري يُدعى «كويك فوس» يحتوي مادة فوسفيد الألمنيوم ويطلق عليه شعبياً اسم «حبة الغاز». وجاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية أنَّ الغاز الذي يُطلقه فوسفيد الألمنيوم عند تماسه مع الرطوبة الجوية له قدرة عالية على اختراق الجدران البيتونية غير المدهونة وتأثيره خطر على الإنسان. ومن أعراض استنشاق هذا الغاز حدوث إعياء وغثيان وألم في المعدة ورغبة في التقيؤ وإسهال وعطش.. وإذا كانت الإصابة شديدة قد تؤدي إلى الوفاة. وتعتبر هذه الأعراض مطابقة تماما لأعراض التسمم الغذائي. ويقول الطبيب الشرعي محمد علي عابو: «ليس هنالك فرق بين التسمم بالمبيد الحشري (فوسفيد الألمنيوم) وبين التسمم الغذائي، فالأعراض متشابهة وهي إقياء وإسهال وغثيان وألم في المعدة وعطش». ويضيف عابو: «سبب التسمم في المرة الثانية هو غالباً نفسه سبب وفاة الطفلين».
ويقول محامي العائلة طلال العابو: «إنَّ حالة تسمّم العائلة للمرة الثانية (أي بعد وفاة الطفلين بـ15 يوماً) أدَّت إلى فتح التحقيق من جديد والعودة إلى الضبط الأول للتأكد من سبب الوفاة في الحالة الأولى، لاسيما أنَّ صاحب المخزن يقوم برشّ الحبوب بالسموم بهدف التعقيم منذ أكثر من شهرين».
الدكتور دارم الطباع (أستاذ الصحة في كلية الطب البيطري في جامعة البعث) يقول: «من الصعب أن تؤدي المرتديلا إلى تسمم غذائي بهذه السرعة، وإلى موت الطفلين خلال يوم أو يومين». ويضيف: «أنا كنت في حلب خلال الحادثة، واطلعت على التقرير، وكلّ الدلائل تشير إلى ابتعاد الشبهات عن التسمم بالمرتديلا وتحوّلها إلى التسمم بالمبيد الحشري».
من جهته يقول الطبيب محمد القصيم (الاختصاصي في الرقابة الغذائية): «هناك خطأ واضح في تشخيص الطبيب المعالج، بأنَّ حالة الوفاة ناجمة عن تسمم جرثومي وشيقي من ناحية أعراض الإقياء والإسهال؛ فالانسمام الوشيقي من أهم أعراضه شلل الأمعاء والتسسممات العصبية لعضلات العين وعضلة الحجاب الحاجز. وإذا كان التشخيص بوجود تسمم وشيقي صحيح لا يحدث إقياء وإسهال».
وحول عدم تأكد الأطباء من سبب التسمم، يقول الدكتور طباع: «للأسف، تقصّي التسممات الغذائية لم يتطوَّر بعد في سورية. وبناءً على القانون رقم 7 يجب أن يكون هناك فريق غذائي يتتبع مصدر الإصابة ولا يجوز أخذ حكم من خلال التشخيص الأولي أو معلومات أهل المصاب. لكن الأهم والأخطر هو موضوع انتشار مادة فوسفيد الألمنيوم السامة وانتشارها في الصيدليات الزراعية، حيث تباع كسم للقوارض والحشرات دون رقابة صحية».
وفي إحصائية غير رسمية، ظهر أنَّ سموم حبة الغاز (فوسفيد الألمنيوم)، التي تستخدم في مخازن الحبوب المنتشرة في الأقبية والمحلات ضمن المباني السكنية وحتى داخل البيوت المخصصة للسكن، قتلت خلال السنوات الخمس الماضية في محافظة حلب وحدها أكثر من 65 شخصاً.
يُذكر أنَّ حالةً مشابهة حصلت في السعودية العام الفائت، حيث قُتل طفلان وتسمَّم ثمانية آخرون، واشتُبه بأنه تسمّم غذائي.. إلا أنَّه بعد تشكيل لجنة من الأطباء والخبراء والطب الشرعي وشعبة الطب الوقائي، تمَّ التوصل، بعد ساعات فقط، إلى تعرّض الأسرة إلى استنشاق مادة كيميائية سامة (ناتجة عن مبيد حشري) تسرَّبت عن طريق أنابيب الصرف الصحي.
تشهير
سامر ديروان (مدير الشركة التقنية للصناعات الغذائية) يقول: «نحن نطالب بإيضاح كلّ ملابسات الأمور وكيفية حدوث حالتي الوفاة اللتين اختزلتا بالتسمم الغذائي بعلبة مرتديلا؛ ذلك أنَّ الخبر نشر في جريدة الجماهير المحلية في حلب دون التأكد من نتائج التحليل، بل اعتمد فقط على تقرير الطبيب الشرعي الذي وصف الحالة بأنها تسمم غذائي دون تشريح الجثة؛ ما أدَّى إلى خسائر تُقدَّر بـ150 مليون ليرة سورية، بالإضافة إلى إلغاء عقدي تصدير إلى ليبيا والسعودية. وهذا اختراق لقانون المطبوعات، وينطوي تحت بند التشهير دون دلائل حقيقية وقبل صدور النتائج النهائية للتحقيق».
طلال العابو (محامي العائلة)، قال: «نحن لا نتّهم أحداً حتى ظهور نتائج التحقيقات، وسندّعي على المسبب بغضّ النظر أكان المرتديلا أم المبيد الحشري. لكنّ المشكلة أنَّ الأعراض متشابهة ولم يكشف حتى الآن السبب الحقيقي للوفاة؛ فالتحليل المخبري لعينة المرتديلا جاء سليماً، بينما شخّص الأطباء في المستشفى الوطني في مدينة الباب حالة الوفاة بأنها ناتجة عن تسمم غذائي. أما في حالة التسمم الثانية، فقد بيَّن الأطباء أنها ناتجة عن مادة فوسفيد الألمنيوم المستخدمة في تعقيم الحبوب إلى جوار منزل العائلة».
وكانت وزارة الاقتصاد قد قامت بإجراء ثلاثة عشر تحليلاً لعينات المرتديلا المضبوطة من قبل النيابة العامة في مدينة حلب، كان منها خمسة تحليلات في المخبر المركزي في دمشق وثمانية أخرى في مخبر الوزارة في حلب. وبحسب مازن ديروان (عضو مجلس الإدارة في الشركة التقنية للصناعات الغذائية) فإنَّ جميع التحليلات التي أجرتها الوزارة أثبتت توافقها مع المواصفات والمقاييس. ويدعو ديروان إلى ضرورة تنبه المعنيين في الشأن الاقتصادي من تجربة شركته وما تعرّضت له من سوء؛ كيلا تقع شركات أخرى تختصّ بالصناعة الغذائية في أزمة مماثلة. كما عبَّر ديروان عن أسفه لإدانة شركته قبل إثبات صحة الادعاءات.
قامت العديد من وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية بإطلاق الأحكام وتوزيع الاتهامات جزافاً منذ إعلان الوفاة الأولى وإعلان التقرير الشرعي الأول. إلا أنه لا يمكن الحكم على القضية قبل ظهور نتائج التحقيقات النهائية.
وفي نظرة سريعة إلى مجريات الأحداث الدراماتيكية، وبحسب إفادات المدعين والشهود والأطباء، وبالنظر إلى حالتي التسمم خلال أقل من شهر والأعراض المتطابقة للتسمم الثاني المؤكد بالمبيد الحشري والتسمم الأول المستند إلى تشخيص أطباء الإسعاف دون تشريح جثتي الطفلين، يمكننا التوجه إلى وزارة الصحة بعد كل ذلك والقول: لو امتلكنا مختبراً حقيقياً لكشف أسباب الوفاة في ثاني أكبر مدينة سوريّة، ولو تعامل الأطباء بشكل علمي ومسؤول أكثر وكشفوا سبب التسمم الحقيقي (الذي لم يُكشف حتى الآن)، لما وصلنا إلى هنا منذ اليوم الأول للقضية.