الفقر بين الإسلام والرأسمالية (مفهوماً ومعالجة)
إن من أعظم المصائب التي لحقت بأمة الإسلام في هذا العصر عقب غياب الحكم
بما أنزل الله وبعد وقوعها فريسة للكافر المستعمر، ما حل بأبنائها من فقر
واحتياج وعوز لم تشهد مثله من قبل رغم ما تعجّ به بلادها من ثروات وخيرات
هائلة، منها الزراعية، ومنها المائية، ومنها الظاهر، ومنها الدفين كالطاقة
التي هي عصب الحياة الصناعية وروحها، ومنها ما يتعلق بعمقها الجغرافي،
ومنها ما يتعلق بعمقها البشري. أضف إلى ذلك أنها تحيا في عصر التقنية
والتطور المادي وسرعة الاتصال ويسر المواصلات. رغم كل هذا تجدها -أي الأمة
الإسلامية- تصنف في عداد الأمم الفقيرة، بل المنحطة التي تعتاش على فتات
الأمم الكافرة والدول المستعمرة.
أسباب وجود الفقر:
إذا ما تجاوزنا وصف واقع الفقر الذي كثر واصفوه، وأخطأ مشخصوه، وقل معالجوه
العلاج الصحيح الشافي، وأردنا أن نلقي نظرة نجمل فيها أسبابه نجدها في
أمور أهمها:
1- غياب الحكم بما أنزل الله في شؤون الأمة عامة، وفي الحياة الاقتصادية
خاصة، إذ استبدل الكفر جميعاً بأحكام الإسلام كافة، فغدت الأمة في مشارق
الأرض ومغاربها تخضع لأحكام الكفر التي جرّت عليها ويلات تتلوها ويلات،
ومصائب تعقبها مصائب، وكانت مصيبة الفقر أبرزها.
2- تجزئة الأمة الواحدة ذات الكيان الواحد والحاكم الواحد إلى كيانات
متعددة مختلفة منتافرة، مما فرق شمل خيراتها ومواردها وجعلها نهباً لفئات
متسلطة، يَـدَّعون أنهم حكام وما هم بحكام، وحرمها من تكامل اقتصادي يغنيها
عن العالم أجمع، بل يؤهلها لتسنم مجدٍ لا يُشق له غبار.
3- الاستعمار الذي ما زال يجثو على صدرها، ويلقي بظلاله على جميع جوانب
حياتها، ولا سيما الجانب الاقتصادي، حيث أصبحت بلاد المسلمين إحدى مصالحه
الحيوية التي يستعد للدفاع عنها والتشبث بها ولو كلفه ذلك الغالي والنفيس،
فكانت -وكما تقول أميركا- جزءاً من أمنها القومي، وأبرز معالم هذا
الاستعمار:
أ- نهب المواد الخام وموارد الطاقة.
ب- استخدامها أسواقاً لسلعهِ ومنتوجاتهِ، والتفنن في ذلك حتى أدخل معظم
الدول القائمة في العالم الإسلامي في ما يسمى بمنظمة التجارة الدولية، حيث
رفع الجمارك وتقليص دور الدولة في التجارة الخارجية.
ج- وضعها في قفص المديونية، فلا توجد دولة من هذه الدول إلا وقد وقعت في المديونية للمؤسسات الاستعمارية.
د- تطبيق أحكام النظام الاقتصادي الرأسمالي عليها، فاستباحت الربا،
والاحتكار، والتسعير والشركات المساهمة، والتأمين، وتغير مفهوم الملكية
لديها واختلفت أسبابها وطرق تنميتها، ومفهوم التجارة الخارجية.
هـ - اشتغالها بالأزمات التي تستدعي تمويلاً يستنـزف خيرات البلاد دون أن تحقق نتيجة ترجى.
و- جعل وجهة نظر المستعمر في الحياة وفي الاقتصاد قِـبْـلةَ المسلمين في حل
مشاكلهم الاقتصادية، والتي تتلخص في القروض والضرائب وتقليص دور الدولة في
رعاية شؤون الناس، والذي يعرف بالخصخصة وفتح البلاد أمام الاستغلال أو
الاستثمار الأجنبي وتأجير البلاد كقواعد عسكرية... إلخ.
4- غياب مفهوم رعاية الشؤون عن الدولة وعن الأمة، إذ إن الدولة في الإسلام
تعني رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً أفراداً وجماعةً، وهذا أمر كان
مفهوماً عند الحكام ومن ناب عنهم، فاستقاموا وجهدوا في تحقيقه على أحسن
وجه. وكان أيضاً مفهوماً عند الأمة التي ما توانت في محاسبتهم كلما رأت
منهم تقصيراً أو تجاهلاً لشأن من شؤونها، إلا أن الأمر قد انقلب رأساً على
عقب، فجاءنا حكام لا يعرفون إلا رعاية شؤون أنفسهم، والمحافظة على مصالح
ساداتهم الكفار المستعمرين، والتسلط على الناس وإذلالهم وأكل حقوقهم،
فأوجدوا جواً مفعماً بالظلم والجهل والفقر، فغاب عن الناس مفهوم الرعوية،
فغدوا يرون البلاد والعباد ملكاً لهؤلاء الحكام يتصرفون فيه تصرف المالك
بملكه، ولا يرون لأنفسهم حقاً عليهم، بل رأوا أنفسهم مسؤولين عن شؤونهم
الخاصة والعامة، ولا أدل على ذلك من ترنحهم في الفقر والهوان دون أن
يلتفتوا إلى حكامهم لمطالبتهم بما يصلح حالهم. والأدهى من ذلك أن ترى
وجوههم تعلوها البهجة والسرور والعرفان بالجميل، إذا ما فطن الحاكم لبعض
مآسيهم، وتصدق عليهم بفتات ما نهب منهم.
النظرة الرأسمالية للفقر:
ينطلق الرأسماليون في نظرتهم للفقر من نظرتهم للمشكلة الاقتصادية التي
يسعون لحلها ويسمونها نظرية الندرة النسبية للسلع والخدمات، والتي تنص على
كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، أي عدم كفاية السلع والخدمات الموجودة في
هذا الكون لإشباع حاجات الإنسان المتجددة والمتزايدة إشباعاً كلياً.
فالمشكلة عندهم إذن هي الحاجات والموارد وليس الإنسان، أي هي توفير الموارد
لإشباع الحاجات، وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد، فخلطوا بذلك بين علم
الاقتصاد والنظام الاقتصادي، فكانت الدراسات الاقتصادية تدور حول العمل
على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات. أضف إلى ذلك أنهم
عرّفوا الحاجة بأنها الرغبة، فكل ما ترغب فيه فأنت تحتاجه، ولم يميزوا بين
حاجات أساسية فطرية في الإنسان وهي المأكل والملبس والمسكن، وبين حاجات
كمالية تتغير وتتطور كلما تقدمت المدنية، وهذا هو السر في ادعائهم ازدياد
الحاجات. وذهبوا إلى ما هو أخطر عندما اعتبروا هذه الرغبة هي مقياس المنفعة
في الشيء، فالرغبة في الشيء هي التي تجعله نافعاً اقتصادياً أو غير نافع.
ومن هذه النظرة التي تقوم على أساس الندرة النسبية للسلع والخدمات، وأن
الحاجة هي الرغبة، وأن هذه الخدمات تتغير تبعاً للتطور المادي والمدني،
عرفوا الفقر بأنه عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات، وأنه يختلف
باختلاف الأمم والأشخاص، فهو شيء نسبي اعتباري، فالأمم المنحطة تكون حاجات
أفرادها محدودة في السلع والخدمات الضرورية، فيكون الفقر فيها عدم القدرة
على الحصول على هذه السلع والخدمات. في حين أن الأمم المتمدنة المتقدمة
مادياً تكون حاجات أفرادها كثيرة يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر،
فيعتبر الفقر فيها غير الفقر في البلدان المتأخرة، فمثلاً يعتبر عدم إشباع
الحاجات الكمالية في أوروبا وأميركا فقراً، في حين لا يعتبر عدم إشباع
الحاجات الكمالية مع إشباع الحاجات الأساسية في مصر والعراق مثلاً فقراً،
وهذا خطأ محض لأنهم جعلوا الفقر شيئاً اعتبارياً وليس حقيقياً، وهذا مخالف
لواقع الفقر الذي لا يختلف باختلاف زمان أو مكان، أو بتقدم مدني أو انحطاط،
ولأن التشريع أي تشريع موضوع للإنسان لا بد أن ينظر للإنسان عند وضع
المعالجات للمشاكل بوصفه إنساناً يتكون من حاجات عضوية وغرائز لا بوصفه
فرداً.
ولم تقف الرأسمالية عند الخطأ في تعريف الفقر، بل أنها أوجدته وساعدت في
تكريسه عند نظرتها إلى توزيع الثروة، إذ يرون إنها تتم ضمن طريقتين: الأولى
حرية التملك، فبعد توفير الموارد والثروات لمجموع الناس، يترك لهم حرية
التملك، دونما تحديد لأسباب معينة له، أو إشارة إلى طرق تنمية معينة له،
وهذا حتماً يؤدي إلى تركيز الثروة وحصرها في أيدي فئة قليلة، وحرمان فئات
أخرى منها، أي يؤدي إلى سوء توزيع الثروة، فشاعت الاحتكارات الرأسمالية
التي تعدت سيطرتها حدود المجتمعات الرأسمالية إلى باقي أنحاء العالم،
فاستبد المنتجون بالمستهلكين وشاع الفقر والحرمان.
أما الطريقة الثانية عندهم لتوزيع الثروة فهي الثمن، فالثمن عندهم هو
المنظم لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، فيقولون إنه القيد الذي يجعل
الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده.
وبذلك يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها، وتوفر النقد عند
البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون منظماً لتوزيع الثروة على المستهلكين،
ويكون نصيب كل فرد من ثروة البلاد ليس بمقدار حاجاته الأساسية، وإنما هو
معادل لقيمة الأعمال التي ساهم بها في إنتاج السلع والخدمات، أي بمقدار ما
يحوز من مال.
وبهاتين القاعدتين حرية التملك والثمن يكون النظام الاقتصادي الرأسمالي قد
قرر أنه لا يستحق الحياة إلا من كان قادراً على المساهمة في إنتاج السلع
والخدمات أو امتلاكها بأي سبب يناسبه، أما من كان عاجزاً لأنه خُلِقَ
ضعيفاً، أو لضعف طرأ عليه، فلا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسد
حاجاته، وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان
قادراً على ذلك لأنه خُلِقَ قوياً في جسمه أو عقله، أو كان أقدر من غيره
على الحيازة بأي طريق من الطرق.
أما تصورهم لحل مشكلة الفقر والقضاء عليه فهو على النحو التالي:
ما دامت المشكلة الاقتصادية هي محدودية الموارد، وتناقصها بالنسبة للحاجات
المتزايدة غير المحدودة؛ كان تصورهم للحل هو توفير هذه الموارد، أي السلع
والخدمات، بمعنى آخر هو رفع مستوى الإنتاج، أي زيادة ما يستهلكه الناس،
مجموع الناس، لا الأفراد، فبرز عندهم ما يسمى بحجم الإنتاج الأهلي، وينظم
هذا التوزيع بجهاز الثمن، فيترك للأفراد نوال ما يستطيعون من هذه الثروة كل
بحسب ما يملك من عوامل إنتاجها، سواء حصل الإشباع لجميع الأفراد أو حصل
لبعضهم دون البعض الآخر. وهذه معالجة خاطئة لا تؤدي إلى القضاء على فقر
الأفراد ولا إلى رفع مستوى معيشتهم جميعاً؛ لأن الحاجات التي تتطلب الإشباع
هي حاجات فردية مع كونها حاجات إنسان، ولأن معالجة فقر البلاد لا يعالج
مشاكل فقر الأفراد فرداً فرداً، ولكن معالجة فقر الأفراد وتوزيع ثروة
البلاد عليهم يؤدي حتماً إلى زيادة الدخل الأهلي، ولأن العوامل التي تؤثر
في حجم الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي يكون بحثها في علم الاقتصاد، أي في بحث
المادة الاقتصادية وزيادتها، أما الفقر فبحثه متعلق بتوزيع الثروة بين
الناس وهو ما يسمى بالنظام الاقتصادي.
إن من أعظم المصائب التي لحقت بأمة الإسلام في هذا العصر عقب غياب الحكم
بما أنزل الله وبعد وقوعها فريسة للكافر المستعمر، ما حل بأبنائها من فقر
واحتياج وعوز لم تشهد مثله من قبل رغم ما تعجّ به بلادها من ثروات وخيرات
هائلة، منها الزراعية، ومنها المائية، ومنها الظاهر، ومنها الدفين كالطاقة
التي هي عصب الحياة الصناعية وروحها، ومنها ما يتعلق بعمقها الجغرافي،
ومنها ما يتعلق بعمقها البشري. أضف إلى ذلك أنها تحيا في عصر التقنية
والتطور المادي وسرعة الاتصال ويسر المواصلات. رغم كل هذا تجدها -أي الأمة
الإسلامية- تصنف في عداد الأمم الفقيرة، بل المنحطة التي تعتاش على فتات
الأمم الكافرة والدول المستعمرة.
أسباب وجود الفقر:
إذا ما تجاوزنا وصف واقع الفقر الذي كثر واصفوه، وأخطأ مشخصوه، وقل معالجوه
العلاج الصحيح الشافي، وأردنا أن نلقي نظرة نجمل فيها أسبابه نجدها في
أمور أهمها:
1- غياب الحكم بما أنزل الله في شؤون الأمة عامة، وفي الحياة الاقتصادية
خاصة، إذ استبدل الكفر جميعاً بأحكام الإسلام كافة، فغدت الأمة في مشارق
الأرض ومغاربها تخضع لأحكام الكفر التي جرّت عليها ويلات تتلوها ويلات،
ومصائب تعقبها مصائب، وكانت مصيبة الفقر أبرزها.
2- تجزئة الأمة الواحدة ذات الكيان الواحد والحاكم الواحد إلى كيانات
متعددة مختلفة منتافرة، مما فرق شمل خيراتها ومواردها وجعلها نهباً لفئات
متسلطة، يَـدَّعون أنهم حكام وما هم بحكام، وحرمها من تكامل اقتصادي يغنيها
عن العالم أجمع، بل يؤهلها لتسنم مجدٍ لا يُشق له غبار.
3- الاستعمار الذي ما زال يجثو على صدرها، ويلقي بظلاله على جميع جوانب
حياتها، ولا سيما الجانب الاقتصادي، حيث أصبحت بلاد المسلمين إحدى مصالحه
الحيوية التي يستعد للدفاع عنها والتشبث بها ولو كلفه ذلك الغالي والنفيس،
فكانت -وكما تقول أميركا- جزءاً من أمنها القومي، وأبرز معالم هذا
الاستعمار:
أ- نهب المواد الخام وموارد الطاقة.
ب- استخدامها أسواقاً لسلعهِ ومنتوجاتهِ، والتفنن في ذلك حتى أدخل معظم
الدول القائمة في العالم الإسلامي في ما يسمى بمنظمة التجارة الدولية، حيث
رفع الجمارك وتقليص دور الدولة في التجارة الخارجية.
ج- وضعها في قفص المديونية، فلا توجد دولة من هذه الدول إلا وقد وقعت في المديونية للمؤسسات الاستعمارية.
د- تطبيق أحكام النظام الاقتصادي الرأسمالي عليها، فاستباحت الربا،
والاحتكار، والتسعير والشركات المساهمة، والتأمين، وتغير مفهوم الملكية
لديها واختلفت أسبابها وطرق تنميتها، ومفهوم التجارة الخارجية.
هـ - اشتغالها بالأزمات التي تستدعي تمويلاً يستنـزف خيرات البلاد دون أن تحقق نتيجة ترجى.
و- جعل وجهة نظر المستعمر في الحياة وفي الاقتصاد قِـبْـلةَ المسلمين في حل
مشاكلهم الاقتصادية، والتي تتلخص في القروض والضرائب وتقليص دور الدولة في
رعاية شؤون الناس، والذي يعرف بالخصخصة وفتح البلاد أمام الاستغلال أو
الاستثمار الأجنبي وتأجير البلاد كقواعد عسكرية... إلخ.
4- غياب مفهوم رعاية الشؤون عن الدولة وعن الأمة، إذ إن الدولة في الإسلام
تعني رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً أفراداً وجماعةً، وهذا أمر كان
مفهوماً عند الحكام ومن ناب عنهم، فاستقاموا وجهدوا في تحقيقه على أحسن
وجه. وكان أيضاً مفهوماً عند الأمة التي ما توانت في محاسبتهم كلما رأت
منهم تقصيراً أو تجاهلاً لشأن من شؤونها، إلا أن الأمر قد انقلب رأساً على
عقب، فجاءنا حكام لا يعرفون إلا رعاية شؤون أنفسهم، والمحافظة على مصالح
ساداتهم الكفار المستعمرين، والتسلط على الناس وإذلالهم وأكل حقوقهم،
فأوجدوا جواً مفعماً بالظلم والجهل والفقر، فغاب عن الناس مفهوم الرعوية،
فغدوا يرون البلاد والعباد ملكاً لهؤلاء الحكام يتصرفون فيه تصرف المالك
بملكه، ولا يرون لأنفسهم حقاً عليهم، بل رأوا أنفسهم مسؤولين عن شؤونهم
الخاصة والعامة، ولا أدل على ذلك من ترنحهم في الفقر والهوان دون أن
يلتفتوا إلى حكامهم لمطالبتهم بما يصلح حالهم. والأدهى من ذلك أن ترى
وجوههم تعلوها البهجة والسرور والعرفان بالجميل، إذا ما فطن الحاكم لبعض
مآسيهم، وتصدق عليهم بفتات ما نهب منهم.
النظرة الرأسمالية للفقر:
ينطلق الرأسماليون في نظرتهم للفقر من نظرتهم للمشكلة الاقتصادية التي
يسعون لحلها ويسمونها نظرية الندرة النسبية للسلع والخدمات، والتي تنص على
كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، أي عدم كفاية السلع والخدمات الموجودة في
هذا الكون لإشباع حاجات الإنسان المتجددة والمتزايدة إشباعاً كلياً.
فالمشكلة عندهم إذن هي الحاجات والموارد وليس الإنسان، أي هي توفير الموارد
لإشباع الحاجات، وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد، فخلطوا بذلك بين علم
الاقتصاد والنظام الاقتصادي، فكانت الدراسات الاقتصادية تدور حول العمل
على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات. أضف إلى ذلك أنهم
عرّفوا الحاجة بأنها الرغبة، فكل ما ترغب فيه فأنت تحتاجه، ولم يميزوا بين
حاجات أساسية فطرية في الإنسان وهي المأكل والملبس والمسكن، وبين حاجات
كمالية تتغير وتتطور كلما تقدمت المدنية، وهذا هو السر في ادعائهم ازدياد
الحاجات. وذهبوا إلى ما هو أخطر عندما اعتبروا هذه الرغبة هي مقياس المنفعة
في الشيء، فالرغبة في الشيء هي التي تجعله نافعاً اقتصادياً أو غير نافع.
ومن هذه النظرة التي تقوم على أساس الندرة النسبية للسلع والخدمات، وأن
الحاجة هي الرغبة، وأن هذه الخدمات تتغير تبعاً للتطور المادي والمدني،
عرفوا الفقر بأنه عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات، وأنه يختلف
باختلاف الأمم والأشخاص، فهو شيء نسبي اعتباري، فالأمم المنحطة تكون حاجات
أفرادها محدودة في السلع والخدمات الضرورية، فيكون الفقر فيها عدم القدرة
على الحصول على هذه السلع والخدمات. في حين أن الأمم المتمدنة المتقدمة
مادياً تكون حاجات أفرادها كثيرة يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر،
فيعتبر الفقر فيها غير الفقر في البلدان المتأخرة، فمثلاً يعتبر عدم إشباع
الحاجات الكمالية في أوروبا وأميركا فقراً، في حين لا يعتبر عدم إشباع
الحاجات الكمالية مع إشباع الحاجات الأساسية في مصر والعراق مثلاً فقراً،
وهذا خطأ محض لأنهم جعلوا الفقر شيئاً اعتبارياً وليس حقيقياً، وهذا مخالف
لواقع الفقر الذي لا يختلف باختلاف زمان أو مكان، أو بتقدم مدني أو انحطاط،
ولأن التشريع أي تشريع موضوع للإنسان لا بد أن ينظر للإنسان عند وضع
المعالجات للمشاكل بوصفه إنساناً يتكون من حاجات عضوية وغرائز لا بوصفه
فرداً.
ولم تقف الرأسمالية عند الخطأ في تعريف الفقر، بل أنها أوجدته وساعدت في
تكريسه عند نظرتها إلى توزيع الثروة، إذ يرون إنها تتم ضمن طريقتين: الأولى
حرية التملك، فبعد توفير الموارد والثروات لمجموع الناس، يترك لهم حرية
التملك، دونما تحديد لأسباب معينة له، أو إشارة إلى طرق تنمية معينة له،
وهذا حتماً يؤدي إلى تركيز الثروة وحصرها في أيدي فئة قليلة، وحرمان فئات
أخرى منها، أي يؤدي إلى سوء توزيع الثروة، فشاعت الاحتكارات الرأسمالية
التي تعدت سيطرتها حدود المجتمعات الرأسمالية إلى باقي أنحاء العالم،
فاستبد المنتجون بالمستهلكين وشاع الفقر والحرمان.
أما الطريقة الثانية عندهم لتوزيع الثروة فهي الثمن، فالثمن عندهم هو
المنظم لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، فيقولون إنه القيد الذي يجعل
الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده.
وبذلك يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها، وتوفر النقد عند
البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون منظماً لتوزيع الثروة على المستهلكين،
ويكون نصيب كل فرد من ثروة البلاد ليس بمقدار حاجاته الأساسية، وإنما هو
معادل لقيمة الأعمال التي ساهم بها في إنتاج السلع والخدمات، أي بمقدار ما
يحوز من مال.
وبهاتين القاعدتين حرية التملك والثمن يكون النظام الاقتصادي الرأسمالي قد
قرر أنه لا يستحق الحياة إلا من كان قادراً على المساهمة في إنتاج السلع
والخدمات أو امتلاكها بأي سبب يناسبه، أما من كان عاجزاً لأنه خُلِقَ
ضعيفاً، أو لضعف طرأ عليه، فلا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسد
حاجاته، وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان
قادراً على ذلك لأنه خُلِقَ قوياً في جسمه أو عقله، أو كان أقدر من غيره
على الحيازة بأي طريق من الطرق.
أما تصورهم لحل مشكلة الفقر والقضاء عليه فهو على النحو التالي:
ما دامت المشكلة الاقتصادية هي محدودية الموارد، وتناقصها بالنسبة للحاجات
المتزايدة غير المحدودة؛ كان تصورهم للحل هو توفير هذه الموارد، أي السلع
والخدمات، بمعنى آخر هو رفع مستوى الإنتاج، أي زيادة ما يستهلكه الناس،
مجموع الناس، لا الأفراد، فبرز عندهم ما يسمى بحجم الإنتاج الأهلي، وينظم
هذا التوزيع بجهاز الثمن، فيترك للأفراد نوال ما يستطيعون من هذه الثروة كل
بحسب ما يملك من عوامل إنتاجها، سواء حصل الإشباع لجميع الأفراد أو حصل
لبعضهم دون البعض الآخر. وهذه معالجة خاطئة لا تؤدي إلى القضاء على فقر
الأفراد ولا إلى رفع مستوى معيشتهم جميعاً؛ لأن الحاجات التي تتطلب الإشباع
هي حاجات فردية مع كونها حاجات إنسان، ولأن معالجة فقر البلاد لا يعالج
مشاكل فقر الأفراد فرداً فرداً، ولكن معالجة فقر الأفراد وتوزيع ثروة
البلاد عليهم يؤدي حتماً إلى زيادة الدخل الأهلي، ولأن العوامل التي تؤثر
في حجم الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي يكون بحثها في علم الاقتصاد، أي في بحث
المادة الاقتصادية وزيادتها، أما الفقر فبحثه متعلق بتوزيع الثروة بين
الناس وهو ما يسمى بالنظام الاقتصادي.