المذياع هذا المذياع الصغير الأسود، الذي لا يتجاوز حجم الكف، رافقني منذ زمن طويل، حتى صار جزءاً من أشيائي الخاصة التي لا يمكن الاستغناء عنها، إلا في ظروف استثنائية جداً، كنت أضعه في جيبي حين أغادر المنزل، وفي الليل كان ينام في فراشي دافئاً كجسدي،.. حتى أني لا أستطيع النوم إلا على وشوشاته وموسيقاه وأحاديثه التي كانت تتواصل حتى الصباح في الكثير من الأحيان،... وعندما أستيقظ صباحاً كنت أشعر أني سمعت كل ما قاله على الرغم من نومي العميق وأحلامي المتداخلة التي كانت تستمر أحياناً وأنا في حالة اليقظة. وحين كان يصمت لسبب أو لآخر استنفرُ فجأة للبحث عن قرص التشغيل الذي كنت، أتلمسهُ بسرعة فائقة، دون عناء، فإذا عاد صوته غرقت في النوم من جديد وفي أعماقي تستقر أخباره وموسيقاه وأصوات المتحدثين فيه. وحين اضطر للتقلب في فراشي أشعر أن صوته قد ابتعد قليلاً فأنقله معي ليظل موازياً لرأسي تماماً. [size=12]وفي أحيان كثيرة ينتابني القلق إذا خفت صوته قليلاً فأخشى أن تفرغ مدخراته قبل طلوع الفجر، فأنهض مسرعاً إلى دكاكين الحي بحثاً عن مدخرات جديدة. [size=12]وحتى يوم التحقت بخدمة العلم نجحت في إخفائه داخل ثيابي في أشد اللحظات حرجاً.. لأني وبكل بساطة لا أستطيع النوم دونه...، حاولت مرات عديدة التخلص من هذه العادة لكني أخفقت، وصل بي الأمر أني حفرت على غطائه الخارجي الحرف الأول من اسمي تحسباً لضياعه أو لأي طارئ آخر. [size=12]ذات مرة عدنا من التدريب متعبين وانهارت أجسادنا المرهقة فوق أَسرَّتِها... مددت يدي إلى جيبي حيث مكان المذياع.. أدرت القرص فدوى مرش الأخبار... فجأة صرخ بي أحدهم: دعنا يا أخي نريد أن ننام... ارتجفت يدي بسرعة فائقة وأنا أحاول إسكات الصوت.. [size=12]لا أريد لأحد أن يعرف شيئاً عن المذياع... ثم غططت في نوم عميق على همسات ووشوشات هي ذاتها التي تستقر في أعماقي منذ زمن طويل. [size=12]عبر هذا المذياع الأسود الصغير حفظت أسماء كل المبعوثين الدوليين الذين وصلوا المنطقة بدءاً من الكونت برنادوت الذي اغتاله اليهود ومروراً بكونار يارنغ الذي نشط كثيراً بعد عدوان حزيران وحفظ النازحون اسمه كواحد منهم.. وصولاً إلى كيسنجر، ودينس روس، ومارتن أنديك، ومادلين أولبرايت، وهانز بليكس، وكولن باول، ومحمد البرادعي وغيرهم. [size=12]وقد حفظت كل الجمل الرئيسية التي كانوا يرددونها جميعاً وهي في معظمها ليس لها معنى، وتستطيع أن تضع لها ألف تفسير خلال دقيقة واحدة. [size=12]وعبر هذا المذياع أيضاً حفظت أسماء كثيرة لأولئك الذين حطموا أرقاماً قياسية فدخلوا الموسوعات العالمية.. تسلقاً للجبال، وعيشاً مع الأفاعي، ومسافات سباق، وابتلاعاً لسلاسل الحديد، وقضماً للحجارة والمسامير...، وكنت أنتظر في كل يوم أن يدخل هذه الموسوعات اسماً واحداً فقط من أولئك الذين نجحوا في إزهاق الملايين من أرواح الأبرياء، إلا أن ذلك لم يحدث!. [size=12]وحفظت أيضاً أسماء المراسلين الذين كانوا يرصدون الكوارث التي تجتاح بقاعاً شتى من العالم، ولاسيما أولئك الذين كانوا يجهشون بالبكاء وهم يتحدثون عن الأطفال الذين هرستهم الدبابات في جنين ونابلس وطولكرم وغزة وغيرها من مدن فلسطين، واستقرت في ذاكرتي ملايين العبارات التي أطلقها الزعماء شجباً واستنكاراً وإدانة. [size=12]وفي الأيام الأخيرة صار المذياع يجود كثيراً بأخبار السوبر ستار والفيديو كليب وسيدات العصر وديمقراطية ا لعالم الجديد... صرت مضطراً للعبث المتواصل بقرصه الصغير بحثاً عن أخبار هامة... وفي أعماقي مشاعر عدائية بدأت تنموا بسرعة فائقة.. حتى أني بدأت أتركه في الفراش على غير عادتي، وحين أعود من عملي أسمع نشيجه تحت وسادتي فأدرك أني تركته مفتوحاً.. فأعود لشراء مدخراته من جديد. [size=12]هذا اليوم ذاب جسدي في الفراش مع الساعات الأولى للظلام.. أطفأت النور، قررت النوم باكراً على غير عادتي فقد أرهقتني الأخبار.. كان وجهي نحو الجدار،.. وصار المذياع خلفي تحت طرف الوسادة.. أعرف مكانه جيداً.. لكني قررت الاستغناء عنه فجأة صارت مسافة شاسعة بيننا.. هكذا خيل إليّ. [size=12]مشاعر لا أستطيع تفسيرها.. حالة من الإغماء الداخلي أو ربما حالة من سبات.. أو ربما حالة من الانهيار أو ربما حالة من التبلد.. وعلى الأرجح كل هذه الحالات معاً. [size=12]مرت لحظات خلتها زمناً طويلاً.. تنبهت فجأة لصوت المذياع ووجدت سبابتي تعبث بقرصه من جديد... مرش الأخبار أثار صحوي.. غالبت عيناي ظلام الحجرة، كانت خيوط من نور متناثر تتسلل عبر النافذة، وساعة الجدار تواصل زحفها نحو الصباح فيتداخل صوت عقاربها مع مرش الأخبار الذي خلته طويلاً هذه المرة. [size=12]وعلى الرغم من معرفتي الأكيدة لأصوات المذيعين والمذيعات إلا أن هذا الصوت يبدوا غريباً تماماً.. لم أسمعه من قبل قال بنبرة واثقة: سقطت بغداد.. القوات الأمريكية دخلت بغداد. [size=12]صار تبلدي جنوناً، وسباتي صحواً، وامتلأت حنجرتي بكاءً وغضباً.. نهضت.. قذفت المذياع بكل ما أملك من قوة لا أدري إلى أين.. سمعت صوت ارتطامه بالجدار وتساقط حطامه على أرض الغرفة المظلمة، حسبت أن تحطمه صار انفجاراً هائلاً هزّ العالم من حولي.. ضاعت عيناي في ظلام الغرفة ثم استقرتا على نثار الضوء المنبعث من النافذة. [size=12]وبعد لحظات أدركت أن المذياع ارتطم بساعة الجدار فسقطا معاً... حيث لم أعد أسمع صوت عقاربها.. لم يعد في حجرتي ما يشير إلى الزمن سوى الظلام الذي يلفني الآن وصدى عقارب الساعة التي توقفت قبل قليل. [size=12]مرّ زمن وأنا بلا مذياع، وبلا أخبار، وبلا مشاعر وبلا وعي، عادت إليّ حالة السبات من جديد.. التصق جسدي بالفراش أياماً طويلة.. ماتت أحلامي، وسقطت في داخلي كل الأمنيات التي عشت من أجلها، اليوم فقط قررت الخروج عسى أن أنجح في بناء حالتي من جديد، اندفعت قدماي في طريق ترابي خارج المدينة.. كنت تائهاً لا أعرف إلى أين، كان الكون أمامي فتحة صغيرة في جدار أسود وقفت قليلاً في منتصف الطريق، استدرت في المكان ، تفحصت آثار خطاي فوق تراب الطريق.. كانت متداخلة على نحو عجيب، أدركت حالة الاضطراب التي تجتاحني الآن.. دققت النظر في كل موجودات الطريق.. حجارة ، بقايا أعشاب، آثار قديمة لأقدام عابرة.. قطعة بلاستيكية سوداء صغيرة تلتمع تحت أشعة الشمس، تقدمت نحوها.. يلفني الذهول.. شعور من الألفة ينهض في داخلي.. أمسكتها قلّبتها بين يدي، مسحت الغبار العالق على أطرافها تفحصتها جيداً.. يا إلهي هذا الحرف الأول من اسمي!!... [size=12]إذاً هي قطعة من المذياع الأسود الصغير، كيف وصلت إلى هنا؟!، أنا وضعت كل حطام المذياع وساعة الجدار في سلة القمامة.. كيف وصلت إلى هذا المكان؟ [size=12]تنامت في داخلي حالة اليقظة.. خطر لي أن سيارات القمامة ربما تسلك هذا الطريق، أو أن سبباً آخر قد أوصل هذه القطعة البلاستيكية إلى هذا المكان... [size=12]تسمرت في المكان، تأملت السهول، التحمت عيناي في الأفق المغسول بنثار الشمس.. فركت القطعة البلاستيكية السوداء بين أصابعي صار الحرف الأول من اسمي أكثر وضوحاً.. [size=12]انداحت في داخلي ذكريات ومشاعر وأحزان، جلست على حافة الطريق، ارتكزت عيناي فوق القطعة البلاستيكية.. أمسكت حجراً وظللت أطرقها حتى تناثرت من جديد، نهضت، امتدت خطاي في بحر من السهول والرمال إلى أن بدت أمامي مآذن بغداد أشباحاً وسط الرماد والدخان وهباب الحرائق، وكانت أسراب العصافير تلامس ذؤابات النخيل ثم تفر مذعورة على أذرعة الشمس وهي تقاوم عنوة سحب الغبار المتهادية على ريح الأشقاء. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size] |
المذياع .~~~~~~~ئئ
malek- مـــؤســــس الـــمــوقــــــع
- الـــجـــنـــس : :
الــــبـــرج : :
الأبراج الصينية : :
عدد الرسائل : : 2004
الـــعــمــــر : : 35
العــمــل/الـــتــرفـــيـــه : رئيس حركة الأيِ~افة بالحـــــمدانية
مــاهـــو مــزاجـــك عـــادة : : غائم متقلب
عــــــلـــــم دولـــتــــك :
تاريخ التسجيل : 08/02/2009
نــقـاط الـعـضو : : 8274
- مساهمة رقم 1