<td width="100%" valign="top">
برد الشتات يا إلهي: ما هذا الزمهرير؟. والله كأني أسير عارياً، أو كأن عظامي في ثلاجة، أو كأن ثلوج العالم داخل معطفي!!. قلت لـه: اقترب من المدفأة، وستشعر بالدفء حتماً... يبدو أنك كبرت فلا تستغرب هذا. اقترب قليلاً وهو يسوّي أطراف معطفه، وأزاح الكوفية عن وجهه فبانت حزمة بيضاء تتدلى فوق شفاه يابسة، وانكشفت تغضنات وجهه العميقة، مرّ بيده فوق شاربيه، ثم وضع سيجارة مرتجفة بين شفتيه، واحتضن المدفأة بكفين هرميين واستدارت عيناه القلقتان في أطراف المكان. اقتربت قليلاً من المدفأة، صرت في مواجهته تماماً، وكادت أيادينا أن تتلامس عند أطراف النار. قال: هل تشعر بالبرد أيضاً؟. قلت: نعم ولكني أحاول مغالبة الطقس بالكثير من الشاي، وهذا المعطف الثقيل فوق ظهري كما تلاحظ. امتدت يده نحو الإبريق الأسود المحترق، رفع الغطاء ثم أعاده.. فتصاعد البخار كثيفاً مشبعاً برائحة الشاي المغلي. قلت: لحظات فقط وستدفأً حناجرنا وصدورنا... فليس أحسن من الشاي عندما يشتد البرد. صمت قليلاً وهو يتأمل اللهب الراقص وسط المدفأة. لامس بأصابعه الخشنة تلك الفتحة البلاستيكية المشتعلة ثم عبّ سيجارته، وأطلق دخاناً كثيفاً امتزج مع بخار الشاي، فصار لجو الحجرة الطينية رائحة خاصة اعتدناها منذ زمن. قال: هل تصدق أني لم أشعر بالدفء منذ خروجنا؟. يا رجل: كنت هناك أسير حافي القدمين واجتاز السهول الموحلة، والأودية الهادرة بشلالات المياه، وأقفز فوق الصخور اللامعة تحت المطر،.. ولا أرتدي شيئاً سوى قميص بالكاد يستر جسدي.. كنت أعود إلى البيت مبللاً كأنما خرجت من بحر، وأنام قبل أن تجف ملابسي، واستيقظ صباحاً وأنا أكثر قوة وأكثر دفئاً، ما الذي تغير إذن، نحن أم الطبيعة؟. حتى صوت المطر لم نعد نسمعه وهو يرشق أسطحة البيوت!!. هناك كنا ننام على وقع الأمطار المتلاحقة فوق بيوتنا،... كان صوت المطر حنوناً يمتزج بأنفاسنا، ويحيل الصمت في بيوتنا إلى موسيقا لا تزال تستولي على مشاعري حتى هذه اللحظة.. بل كثيراً ما كنا نخرج لاستقبال المطر بأجسادنا.. نغتسل، ونشتم رائحة التراب المبلل بماء السماء، ونركض في الحقول لنحفر بأقدامنا أثلاماً للسنابل القادمة. ثم نعود لننسج حكايات الشتاء الجميلة. قال ذلك وقد رق صوته، والتمعت في عينيه دموع حاول مغالبتها.. فرك أنفه.. ما تزال رائحة التراب تسكن أنفي رغم السنين هل تصدق؟ تأملته لحظة.. ثم نهضت.. استدرت في المكان، طارت عيناي عبر نافذة طينية ضيقة، كان الفضاء رمادياً جامداً، وثمة أغصان قريبة تعبث بها ريح هادئة، ومع ذلك خيّل إلي أني أسمع صوت المطر يطرق سطح حجرتي تماماً كما كنا نسمعه هناك. لحظات من صمت وتأمل قطعتّها شفاه باردة وهي تحاول عنوة التهام دفء الكؤوس بين أيدينا. حاول طرد الصمت بتمتمات مرهقة.. وضع الكأس جانبً، فرك كفيه، التهم وجهي بعينين زائغتين.. قال: يبد أن أرواحنا هي التي تجمدت وليست أجسادنا. كيف للروح أن تدفأ، وقد أُقتلعت من جذورها.. التراب هناك هو الذي كان يمنحنا الدفء، وحين اقتُلعنا انكشفت أرواحنا فقتلنا البرد، تماماً كالأشجار التي تنقلها إلى تراب غير ترابها فتذبل وتموت. مرت لحظات من صمت وأسئلة وأحزان.. التف بكوفيته من جديد، وشد حزام معطفه وهم بالوقوف.. نهضت لأودعه.. مددت يدي لمصافحته، ظلت يدي في الفضاء لم أر أحداً، الباب لم يفتح، ولم أعد أسمع صوتاً!! أجلت النظر في المكان لا كأس إلا كأسي، ولا مقعد إلا مقعدي، ولا أحد في الحجرة سواي!! إذاً من هذا الرجل الممتلئ بالحكمة؟. مررت بيدي فوق وجهي، غاصت أناملي في تغضنات عميقة، وانفجر في داخلي سيل من الأٍسئلة ومرت أمامي وجوه كثيرة متشابهة، تغضنات وشوارب بيضاء متدلية، وشفاه يابسة، وعيون حائرة تلتمع بدموع متجمدة... طارت روحي بحثاً عن جذورها.. وظل هذا الوجه الذي زارني قبل قليل يكبر في داخلي حتى صار بحجم المخيم الذي ينام على برد الشتات. |