<td width="100%" valign="top">
مهابة الصعود إلى كمال الذي رعانا طوال الطريق إلى أخوة الطريق: وليد وعبده وحسن وتركي قمة الجبل تثني أعناقنا نحو الوراء، وثمة أضواء تلتحم مع النجوم فتشعل في أعماقنا مهابة الصعود. كانت أضواء طهران تبدو نثاراً على السفوح لتحيل المكان فضاءً فضياً يكسر عتمة الليل الممتدة نحو قبة السماء التي تبدو أمامنا الآن وكأنها ترتكز على قمة جبل كالكيجال. كنا مجموعة من الرجال نقف في قعر الجبل، نشد الحقائب على ظهورنا استعداداً للصعود،.... الوجوه تطفح بالكثير من الوجل والتهيب، وهواجس الليلة الفائتة.. بعضنا من سكان الصحراء الذين لم يألفوا وعورة الجبال، وبعضنا غادر الجبال منذ زمن طويل زمن طويل، ولم يعد يحمل إلا ذكريات الطفولة التي نهضت يوماً على السفوح،... ومع ذلك فلا مجال للتراجع الآن.. الدقائق القادمة ستشهد أول الخطا في الطريق إلى القمة، ومن أكلته المهابة سيسقط في حنايا الطريق.. كنا ندرك هذا في أعماقنا، بينما كان بعض الأصدقاء يسهب في الحديث عن المخاطر المحتملة التي قد نواجهها في عتمة الليل والمسالك المعقدة لطريق الصعود. التحمت الحقائب بأكتافنا، واستنفرت أنفاسنا لمواجهة اللحظات القادمة... تنهدات ونحنحات مقطّعة وأسئلة مكررة نعرف إجاباتها. ومع الخطوات الأولى قفزت القلوب وتواترت الأنفاس وتضاءلت الأصوات المسربلة بندى الليل، وانغرست العيون على نتوءات الصخور التي تحف بالطريق المتعرج بين الأشجار العملاقة التي شكلت على امتداد الليل بساطاً يمتد في اللانهاية، وأصوات السواقي الراكضة من حولنا تبعث في النفوس قدرة هائلة على التأمل... لم نعد نسمع إلا أنفاسنا وخفقات قلوبنا وعراك أحذيتنا مع حصى الطريق ونشيد السواقي وهي تمضي في طريقها الأزلي بين الصخور.. لقد ذاب ضجيج المدينة وذابت أضواؤها في عمق الأودية وجذوع الأشجار العملاقة الناهضة على السفوح. صمت، وهواجس، وأنات مكتومة، تقطعّها ضربات العصي التي نتوكأ عليها، وعيون تلتهم الأقدام المتباطئة، وأصوات تأتي من بعيد لتؤكد إصرارنا على المتابعة... ترتفع القامات قليلاً لاستكشاف الأمداء المعتمة أمامنا، ثم لا تلبث أن تنحني لمغالبة السقوط. وحين ينحني الطريق يميناً أو شمالاً ليكسر قسوة الصعود تمتد في صدورنا أنفاس عميقة لا تلبث أن تشتعل من جديد حين يعود الجبل أمامنا جداراً من صخر وحصى وظلال... وتبدوا لأصوات التي حاول البعض إطلاقها وقد تآكلت في حرارة اللهاث فتصل إلينا مقطّعة يصعب فهمها ـ ومع ذلك فأنت مضطر للإجابة بصوت مرتجف يؤكد وجودك في ثنايا الطريق. وفي حالات كثيرة تهاجمك رغبة الارتماء فوق الصخور، ثم لا تلبث أن تتلاشى أمام حالة التحدي التي ولدتها المسافات المتزايدة بين الصاعدين... فتعود لتغرس من جديد عصاك وأقدامك على أمل الوصول إلى القمة. ابتلت الحقائب بماء أجسادنا وواصلنا المسير كسرب من طيور مهاجرة تسابق الليل في الوصول إلى خيوط الفجر القادمة. تداخلت في أعماقي الأماكن والأودية والصخور والقمم الشاهقة فهذه القمة التي نرنو إليها الآن هي قمة جبل الشيخ المكللة دائماً بالثلوج، وهذه الأودية من حولنا هي ذاتها أودية الجولان وصخورها، ونشيد السواقي هو ذاته نشيد اليرموك وبانياس والرقاد و شلالات وادي مسعود. يا إلهي: كيف للروح أن تنسى مآلها؟! ليل وسواقي وأنفاس وحالة نادرة من الاكتشاف مرّ زمن حسبناه طويلاً فالعصي التي تتوكأ عليها تسارع ارتجافها وهي تنوء بالأجساد المتعبة التي تواصل عراك السفوح، وأصوات الأصدقاء لا تكاد تغادر الحناجر التي فقدت نداها، فتبدو فحيحاً يأتي من أعماق بعيدة، ومع ذلك فأنت قادر على التقاط كل الأنفاس من حولك ككائن بري أنتجته الطبيعة. تقف قليلاً.. تثني طولك نحو الوراء فتبدو لك أضواء المدينة في عمق سحيق فتدرك على الفور أن الوصول إلى القمة قد اقترب.. فتتجدد في داخلك رغبة المتابعة والاكتشاف فتواصل دفع الأقدام في ظلال تنهمر عليك من أعالي الصخور وذؤابات الأشجار الباسقة التي تخفي وعورة الطريق التي يخيل إليك أحياناً أنها ستلفظك نحو الوراء ويلتهب الخيال بمناظر الأجساد المتساقطة نحو قاعدة الانطلاق. لكن تلك الهواجس لا تلبث أن تتراجع حين ترتكز عيناك على الأضواء المترامية فوق القمم فتدرك أن الهدف قد اقترب. صارت أقدامنا أكثر رسوخاًَ، وصار الأمل يمسك بأيدينا نحو الذرا، وتحول الليل من حولنا عباءة من حب، واستيقظت في أعماقنا قدرات هائلة ربما لمن نكن نعرف أنّا نمتلكها قبل هذه اللحظة. وحين انتصف الليل أو كاد كانت أقدامنا تطأ قمة كالكيجال1. وأمامنا بدت طهران تمتد ملتهبة ـ حتى يخيل إليك أنها تلتحم بالأفق وفي الاتجاهات كلها. وهناك وفي عمق الليل كنا نجلس بين النجوم وقد اعتلت وجوهنا ملامح واحدة، وبدأت شفاهنا تستعيد نداها، وسالت ضحكاتنا مع مياه السواقي، وقد سقطت في أعماقنا مهابة الصعود، وتفجرت لذة الاكتشاف. 1 كالكيجال: جبل شمال طهران يزيد ارتفاعه عن 2600م. |