<td width="100%" valign="top">
قبلة لأمي..... قبلة للتابوت لم يسبق لي أن رأيت والدي بمثل هذه الحال..... فكلما زحف النهار قليلاً نحو المساء ازدادت ملامحه استنفاراً وترقباً.. تارةً ينظر إليّ بعينين زائغتين، ثم يذرع المكان جيئةً وذهاباً، وتارةً ينتحي بأمي جانباً.. يتهامسان قليلاً ثم يرمقاني بنظرات سريعة، ويعودان للتشاغل بقضايا البيت اليومية وفي بعض الأحيان يصعد إلى سطح حجرتنا الوحيدة، أتبعه أقف إلى جانبه.. تطير عيناه في أفق المخيم الذي تداخلت بيوته الطينية الواطئة حتى غدا بيتاً واحداً، تقابلت نوافذه وتعرجت أزقته، حتى يخيّل إليك أن نهوض أي حجرة فيه لا يمكن أن يستمر دون الاتكاء، على الحجرة المجاورة. وبين الفينة والأخرى يخرج لمقابلة بعض الشبان على مدخل البيت.. يتحدثون قليلاً، ثم ينصرف كل منهم في الاتجاه الذي جاء منه. يدخل الحجرة مرة أخرى.. يعبُ سيجارته بعمق شديد وترتكز عيناه في زاوية محددة.. كنت أعتقد أنه يتفحص شيئاً ما على الجدار لكني اكتشفت فجأة أنه ينظر في الفراغ ليس إلا.. وهذه الحالة من الاستنفار والترقب عكستها حركات أمي المتلاحقة.. كانت تدور في الحجرة كأنها تبحث عن شيء، وكلما نظرت في وجهي أشاحت سريعاً في اتجاه آخر... الآن تكورت الشمس للمغيب وذابت خيوطها في قلب الليل القادم ببطء شديد، وبمرور الوقت نهضت أضواء النوافذ الضيقة، وهدأت حركات الأطفال في الأزقة وتلاشت جلبتهم حتى غابت تماماً في طيات البيوت، ولم يعد في فضاء المكان سوى وقع خطوات متباعدة بين الفينة والأخرى، وبعض أصوات الساهرين تنقلها رياح رطبة ولدت للتو من الأفق الغربي المفتوح، وثمة أصوات لمحركات متعبة تحاول ولوج الأزقة أو الخروج منها، أو صراخ متقطع لدراجات نارية ترشق أضواؤها أطراف النوافذ وتغيب سريعاً في قلب المخيم، أو قهقهات فاجرة لشباب اعتادوا التسكع ليلاً. تظاهرت بالنوم باكراً على غير عادتي، وفي أعماقي سيل من أسئلة وتوقعات كنت انظر من تحت الغطاء إلى وجه أبي.. ملامحه تزداد استنفاراً يبدو وجهه نهراً من حنان حين ينظر إليّ، وكتلة من صخر حين ترتكز عيناه في فضاء آخر، وتتداخل ملامحه مع ملامح أمي حين يتهامسان، فكأن وجهيهما قد اشتقا من وجه واحد.. وفي كل الحالات ظل دائم النظر إلى ساعته الملتفة حول معصم أسمر تغطيه خصل ناعمة من شعر أسود فاحم. وحين أوغل الليل نهضت أمي إلى صندوق خشبي كانت تطوي فوقه فراشنا.. أخرجت من عنقها مفتاحاً صغيراً مربوطاً بخيط من صوف أدارته قليلاً في قلب القفل الصدئ.. سمعت حركته بوضوح.. أخرجت أشياء كثيرة... حذاء مطاطي لـه ساق طويلة وبدلة فوتيك خضراء، وفلد عسكري أخضر، وبندقية كلاشنكوف وحقيبة مليئة بأشياء لا أعرفها، وكوفية جديدة، كان أبي يقف خلف فراشي تماماً.. كنت أتمنى أن أستدير نحوه لأرى ماذا سيفعل.. لكني خشيت أن يكتشفا تناومي.. مرت لحظات فقط حتى رأيت والدي، وقد صار له شكل آخر تماماً. صار لـه شكل المقاتل الذي يقف على بوابة المعركة، بدا شاباً قوياً جميلاً.. امتلأت عيناي بالدهشة وأنا أرى البندقية الناهضة على كتفه والكوفية الجديدة المخططة وقد غطت مساحة كبيرة من وجهه والحزام العسكري الأخضر، وقد طوق خصره النحيل... مشى خطوات داخل الحجرة.. استدار في المكان أكثر من مرة تهامس مرات عديدة مع أمي.. ثم وقف فوق رأسي.. جثا على ركبتيه.. أزاح الغطاء عن وجهي.. كادت أنفاسي المتسارعة أن تفضح تناومي.. تطامن قليلاً بعد أن وضع البندقية جانباً.. طبع قبلة فوق جبيني.. أحسست بأنفاسه ندية ساخنة تفيض بحنان غامر.. كرر القبلة مراراً ثم أعاد الغطاء فوق رأسي وقد تنهد بعمق شديد.. أحسست أنّ حرارة أنفاسه قد ملأت الكون من حولي.. كدت أن أبكي لكني تماسكت.. كانت أمي تقف إلى جانبه وقد اختنقت بدموعها وندت عنها نهنهات متلاحقة كمن يهم بالبكاء.. وقفت أمامه على باب الحجرة قال لها أشياء كثيرة لم أفهمها صار وجهاهما وجه واحد.. طبع قبلات متلاحقة فوق وجنتيها، وكانت القبلة الأخيرة على جبينها الذي انحنى فوق صدره وهو يرتجف ببكاء مكتوم.. يا إلهي.. هذه المرة الوحيدة في حياتي التي أرى والدي يقبل أمي بمثل هذا الحنان.. لم أكن أتصور أنه يفعل ذلك أصلاً، كنت أتمنى أن يستمر المشهد طويلاً.. لكن صوت المحرك الذي توقف فجأة أمام البيت أنهى كل شيء دفعة واحدة.. حيث خرج والدي مسرعاً.. وظلت أمي متسمرة في مكانها وهي تحاول رفع يدها التي لوحت تلويحة متعبة... واستدارت ببطء شديد نحو الداخل. ارتفع صوت المحرك من جديد، ثم بدأ ينوس شيئاً فشيئاً إلى أن غاب تماماً بعد زمن قصير ومع ذلك خيل إلي أني ما زلت أسمعه رغم مرور وقت على انطلاقه. حاولت إزاحة الغطاء عن وجهي.. بدأت أشعر بالاختناق، ابتلت وسادتي بالعرق المتصبب من جبيني وبين شفتي ولدت مرارة الدموع التي انساحت رغماً عني.. وأنفاس والدي ما تزال تأكل وجهي.. لم يفعل ذلك من قبل؟!! كان يغيب كثيراً عن البيت لكنه في هذه المرة ترك في أعماقي مشاعر كثيرة لا أفهمها.. لكني بدأت أتلمسها وأنا أرقب أمي وقد غرقت في حالة من الشرود وهي تلتقط دموعها بأطراف ملفعها الأسود الباهت.. نظرت إلي طويلاً لاحظت حركة الغطاء فمسحت عينيها سريعاً وجلست فوق فراشها بعد أن علَّقت كوفية والدي وعقاله فوق مسمار صدئ في صدر الحجرة, أطالت النظر إليهما.. ثم اضطجعت في فراشها وقد ندت عنها زفرة طويلة خيّل إلي أنها شقت صدرها حتى وصل نداها إلى وجهي.. خيم صمت شديد من حولنا لم أعد أسمع إلا أنفاسها وضجيج جسدها المتقلب فوق الفراش... خطر لي أن أنهض لأسألها عن كل شيء لكني ترددت في ذلك.. صار فراشي شوكاً لم أعد قادراً على الثبات، تقلبت كثيراً، مرة نحو اليمين فأرى كوفية والدي وعقاله على مسمار الجدار وجسد أمي يتلوى تحت غطاء رقيق، ومرة نحو الشمال فتضيع عيناي في فضاء النافذة المخنوقة بآخر خيوط الليل، وحين استقر على ظهري تأكل أخشاب السقف وجهي، فأضع الغطاء على رأسي من جديد، وقد توالدت في أعماقي مرارة الأسئلة التي أرقتني طوال الساعات الماضية.. وما أن أهدأ قليلاً حتى توقظني أنفاس أمي الممزوجة بحشرجات مقطّعة استمرت حتى بزوغ الفجر الذي أطل من النافذة الطينية الضيقة ليكشف جسدين متكورين تحت غطاءين من القلق.. وما إن ازدادت مساحة الفجر حتى بدا فراش والدي خالياً إلا من أنفاس ساخنة ما تزالَ في المكان. ـ 2 ـ صباحاً كان وجه مي يميل إلى صفرة بادية، وحول محجريها هالة من سواد شفيف يشي بقلق الليلة الفائتة وفي مآقيها بقايا دموع متجمدة تحاول إخفاءها بمشاغل البيت التي اعتادت عليها.. استدارت في المكان مرات عديدة ثم أمسكت كوفية والدي المعلقة, وضعتها في إناء بلاستيكي.. سكبت فوقها الماء.. وغسلتها حتى عادت بيضاء ناصعة.. نفضتها بقوة بادية فتطاير رذاذ الماء حتى وصل وجهي، ثم نشرتها فوق حبل الغسيل المصنوع من شريط هاتف قديم.. رفرفت الكوفية مع ريح الصباح فبدت أطرافها كنورس يهم بالهبوط.. تلمسَتها جيداً، دارت حولها، ثم انصرفت إلى أعمال البيت الأخرى كمن قرر الدخول في يوم جديد بعيداً عن هواجس الليل وقد ساعدها على ذلك دخول بعض النسوة اللاتي تجاذبن أطراف الحديث حول فناجين القهوة التي صنعتها أمي فوق موقد الغاز الصغير المركون في أرض الدار الضيقة وقد بدا لي أن ذبالاته قد تضاءلت إلى حد كبير وربما لن يكفينا حتى آخر النهار. كانت الوجوه وحركات الأيدي والابتسامات الغائرة والأحاديث الهامسة تشي بهم مشترك للجميع.. حاولت التقاط أطراف الحديث وقراءة الملامح وتفسير حركات الأيدي.. لم أفهم شيئاً كل ما لاحظته أن وجوه النساء الجالسات أمامي الآن كوجه أمي تماماً صفرةً وأرقاً وصبراً. أدرت ظهري لهن، تشاغلت بكتاب كان بين يدي لكن عيني لم تستقران لحظة واحدة فوق سطر من سطوره كل ما في ذاكرتي سؤال واحد فقط.. إلى أين ذهب والدي؟ ومتى سيعود؟. ومع تكرار زيارات النسوة في الأيام اللاحقة توالد القلق من جديد وامتلأ وجه أمي أسئلة وترقباً وانتظاراً.. صارت تنهض مذعورة كلما أنَّ محرك في زقاقنا سيما في الساعات المتأخرة من الليل، وصارت أكثر اهتماماً بالمذياع الترانزستر الصغير الذي أصبح رفيقاً لكل أهل المخيم منذ خروجنا.. وتكرر صعودها إلى سطح حجرتنا الطينية.. كانت ترقب الطرقات المؤدية إلى المخيم ثم تهبط وقد امتلأ وجهها بالحنين والخوف، ومشاعرها تلك كانت تسكبها في عيني بنظرات سريعة متلاحقة فازداد حنيناً لوالدي وأعلو سطح الحجرة كما فعلت تماماً لأراقب الطرقات والأزقة وأنفاس الناس، وأصوات المحركات وكل العابرين في أفق المخيم. ـ 3 ـ صار نومي يقظة دائمة.. اضطجعُ أغمضُ عيني، وربما أغفو قليلاً لكني في كل الحالات اسمع الدبيب مها كان خافتاً، والتقط الأصوات مهما كانت بعيدة. الآن وجهي نحو النافذة التي بدأت تمتص خيوط الفجر المتدلية من أطراف السماء، ومن البيوت المجاورة تنبعث أصوات وهمهمات وصرير أبواب ونوافذ تبشر بالنهار وآذان الفجر يأتي مسربلاً بالندى وسكون الفجر الله أكبر الله أكبر..... فتزداد الجلبة، وتتلاحق النحنحات، وتكبيرات الرجال العابرين إلى مسجد المخيم أو إلى أماكن العمل البعيدة، ومع نهوض الشمس استيقظَ المخيم بكل من فيه على أبواق مدوية لسيارات الإسعاف وسيارات اللاندروفر التي التهمت الأزقة وتقاطرت من كل الاتجاهات نحو ساحة المخيم الرئيسية التي أصبحت خلال لحظات مليئة بالرجال والنساء، والأطفال، والبنادق والأعلام والصور. ركضت أمي وركضتُ خلفها ظل باب الدار مفتوحاً خلفنا اخترقنا الجموع بصعوبة بالغة, كانت تركض كسهم من نار وقد جفت شفتاها وتباعدتا، وامتقع وجهها... أمسكت بثوبها خشية أن تضيع بين الجموع.. تفجر القلق والانتظار والترقب قوةً خارقةً.. صارت كطير جارح.. طارت أمي طرت خلفها.. لم أر وجهاً، ولا قامة، كل من حولي لم يعد يعنيني.. المهم أن أظل ممسكاً بثوبها.. أن أطير معها.. أن أصل حيث تريد الوصول.. الساحة أمامنا كتلة من عيون ورؤوس وأجساد.. ومن أطرافها تدافعت نساء مثل أمي ورجال تجمدت أبصارهم فوق نعوش متجاورة على الأرض وقد لفت بأعلام زاهية والتصقت فوقها صور جميلة لأصحابها... كانت صورة والدي أمامي تماماً.. كاد أن ينهض... كانت عيونه تتجه نحوي تماماً.. صرخت أمي طار صراخها في الفضاء صدىً مدوياً مع صراخ النساء وتكبيرات الرجال، جثت على ركبتيها.. طبعت قبلة على التابوت التصقت شفتاها بالعلم وظلت كذلك إلى أن تناهضت على أيدي نساء كن خلفها.. همدت.. تجمدت عيناها في اتجاه واحد فقط.. وتوقفت أهدابها عن الحركة نظرتُ في وجهها.. ثم اندفعتُ نحو أبي.. لأضع قبلةً على تابوته الذي كان ينزُّ دماً من إحدى زواياه.. طارت التوابيت والقبل والدموع المتحجرة إلى مقبرة المخيم وسط الرصاص والزغاريد والأعلام الخافقة وتعالت أصوات رخيمة لفتيات المخيم. "سبل عيونه ومد أيده يحنونه" وكان آخر ما رأيته حين هوى والدي إلى باطن الأرض أثار شفاهي وشفاه أمي على العلم الذي يلف أبي ويخيل إلي الآن وقد أصبحت كهلاً أن شفتا أمي ظلت عالقة بالعلم، ظلت عالقة بالتابوت. وأن ندى شفاهي هو الذي أنبت الورود التي أراها الآن على قبر أبي كلما زرته في مقبرة المخيم. |