<td width="100%" valign="top">
شجرة التوت ـ 1 ـ كانت صرختي الأولى في ظلال شجرة التوت العملاقة التي تغطي أرض الدار... هكذا قالت أمي. وقد سمعتُ قصة ولادتي مئات المرات بل آلاف المرات وفي كل مرة كنت اسمع تفاصيل جديدة لم أسمعها سابقاً.. وفي كل مرة كنت أشعر بالمتعة ذاتها وأظل متحفزاً لسماع القصة من جديد, وحتى هذه اللحظة وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على تلك الواقعة، ما زلت أشعر برغبة جامحة لسماعها مرة أخرى... وتتنامى في داخلي تلك الرغبة كلما زرت قبر أمي في مقبرة المخيم، قالت في المرة الأولى: لم يكن أحد سواي في المنزل فوالدك خرج باكراً للحصاد.. جلست تحت شجرة التوت فداهمني الطلق فجأة... صرخت، وقبل أن تكتمل صرختي تمرغ جسدك بالتراب وتعالى صراخك ليملأ الفراغ من حولي ولحسن الحظ أن جارتنا كانت على سطح بيتها تفرش القمح المسلوق لتجففه الشمس، سمعت الصراخ، فاندفعت نحوي على الدرج الحجري الذي يصل بين بيتينا.. قطعت السر وحملتك في ثوبها وقد تلون جسدك الصغير دماً وتراباً.. ثم عادت واقتادتني نحو الحجرة الشمالية التي تطل على كرم الزيتون.. وبعد لحظات هدأ صراخك قليلاً وتعالت ضحكاتنا ونحن نمسح عنك التراب وندعو لك بطول العمر, وفي مرات لاحقة كانت تضيف تفصيلات كثيرة لم تذكرها سابقاً فتقول مثلاً: حين كنت ارتق بعض الثياب في ظل شجرة التوت سمعت دوياً هائلاً فاعتقدت أن اليهود قد بدأوا قصفهم للقرية كما يفعلون دائماً فانتابني رعب شديد الأمر الذي عجل في ولادتي ثم تتابع بقية الحكاية. وفي رواية أخرى تقول: بعد أن انتهيت من رتق بعض الملابس توجهت إلى فرن التنور، أوقدت النار وراقبتها قليلاً حتى اشتعلت تماماً، وعدت إلى ظلال الشجرة أقطع العجين كي يكون جاهزاً في الوقت المناسب فداهمني الطلق ثم تتابع تفصيلات كثيرة لم أسمعها من قبل. وتقول أحياناً: تعرضت لرعب شديد في اليوم السابق لولادتي حين رأيت جثمان الحاج محمود يتماوج على ظهر الفرس وهو مغمور بالدماء, ومن خلفه رجال القرية.. يومها قتله اليهود وهو يحرث الأرض على الجانب الشرقي لبحيرة طبرية.. في تلك اللحظة شعرت أن الجنين قد زلّ عن مكانه لكن لطف الله حماه من السقوط.. ثم تمضي في حديثها وصولاً إلى تمرغي بالتراب وصراخي تحت شجرة التوت. والأمر الذي كان يحرضها على اجترار قصة ولادتي في الآونة الأخيرة حين كانت تسمع أن امرأة قد تعسرت ولادتها ونقلت إلى المشفى.. كانت تتنهد سريعاً وتقول: ماذا جرى لنساء اليوم؟!.. مشافي وأطباء وخدم وحشم ومع ذلك يتعسرن في الولادة؟.. ثم تتابع: ابني هذا سقط تحت شجرة التوت وقطعت جارتنا سره بسكين قديم.. وهاهو الآن أمامكم رجلاً ولا كل الرجال.. كنت استمع لحكايتها بكل الاهتمام والأمر الذي كان يثير في داخلي الكثير من التأمل وصفها الدقيق لتمرغي في التراب.. كنت أتخيل هذا المشهد حتى في أحلامي وصرت أفسر الكثير من عاداتي على ضوء ذلك.. فأنا حتى هذه اللحظة مثلاً أعشق شجر التوت وأحلم دائماً في الخروج إلى الطبيعة، أجلس على التراب.. أفركه بين يدي.. أعشق رائحته حين يبلله الندى وأحنو عليه حين يشققه الجفاف، ويبدو لي أن جسدي بكل ما فيه ما يزال ممرغاً بالتراب، وأن جراحي الصغيرة لم تندمل يوماً إلا حين أرش فوقها شيئاً من التراب. وعلاقتي مع شجرة التوت لم تتوقف عند هذا الحد فعلى كتفي الأيمن حبة توت سوداء غامقة تبدو أمامي في المرآة كلما تعريت.. استدير قليلاً حتى تصبح أكثر وضوحاً.. وحين ابتعد تبدو نافرة بكل تفاصيلها، أتلمسها بحذر شديد فتبدو جزءً من جسدي.. أتأملها بصمت، وتنهض في ذاكرتي حكايات أمي ا لتي لم تنقطع يوماً. قالت لي: حين كنت في الأشهر الأولى للحمل كان موسم التوت قد أشرف على نهايته.. وذات صباح وقعت عيناي على حبة توت عالقة على ذؤابة غصن عالٍ جداً.. اشتهيتها كثيراً سال لعابي من أجلها هززت الشجرة فلم تسقط.. حاول والدك الصعود إليها فلم يستطع.. قلت لابن جارتنا وكان شقياً جداً.. اجلب لي حبة التوت وسأعطيك ما تريد.. نظر إليها الصبي من بعيد تفحصها من كل الاتجاهات، ثم تسلق الشجرة كحيوان بري.. استمر في الصعود وقد التصق جسده بالجذوع المتفرعة الكثيرة التي قبض عليها.. وحين وصل إلى الأعالي بدأ يتأرجح مع الأغصان اللينة، كاد أن يسقط.. كنت انظر إليه بالكثير من الخوف والرجاء حاول الاندفاع مرات عديدة، صارت أقدامه على غصن وأيديه النحيلة على غصن آخر.. صار في الفضاء وما تزال حبة التوت في الذؤابات العالية.. لم يستطع الوصول.. هز الأغصان هزاً عنيفاً فازدادت حبة التوت تمسكاً بغصنها. تراجعت قدماه إلى جذوع أخرى.. ثم أعاد الكرة مراراً فلم يفلح.. هبط إلى الأرض، استدار حول الشجرة مراراً، قذفها بأشياء كثيرة ولم ينجح، كان العرق يتصبب من جبينه وقد ملأت الخيبة وجهينا.. جلس على حافة المصيف وقد أعياه التعب.. ثم نهض متباطئاً قال: سأعود في الغد مع أولاد آخرين.. تراجعت نحو الخلف.. تأملت حبة التوت بالكثير من الرغبة ثم انصرفت إلى أعمال البيت على أمل الصباح.. في اليوم التالي.. طارت حبة التوت لم تكن موجودة يبدو أن العصافير قد أكلتها.. تلك الرغبة العارمة لأمي ارتسمت على كتفي علامة فارقة ستظل معي لتذوب يوماً في التراب. ـ 2 ـ شجرة التوت ما تزال في ذاكرتي حتى هذه اللحظة ويخيل إلي أن صرختي الأولى في ظلالها ما تزال تتوالد صراخاً متصلاً يهز المكان، على الرغم من الدوي والدخان والحرائق التي اجتاحت القرية يوم خروجنا.. في ذلك المساء الحزين ظلت أغصانها تلوح لنا حتى غابت في بحر من دخان.. لم نعد نراها وكلما نظرنا خلفنا ضاعت أبصارنا في غبار القصف المتصل، صارت القرية ركاماً وحلماً يبتعد شيئاً فشيئاً كلما أوغلنا في الأودية والجبال طلباً للحياة.. لم نعد نرى شيئاً خلفنا، إلا ومض القذائف وسحب الدخان وألسنة اللهب وآلاف الأجساد الزاحفة بين أمواج الموت والحياة. وحين وصلنا إلى الجانب الآخر طارت العيون المدماة في فضاء الحرائق بحثاً عن القرية وأشجارها، وأهلها.. أيقنت أن شجرة التوت قد تفحمّت و صارت تحت ركام البيوت.. عندها تلمست كتفي قبضت على حبة التوت، وأجهشت بالبكاء كنت أخشى أن يصل رصاصهم إلى كتفي، فارتميت على التراب وفي أعماقي توالدت حكايات أمي من جديد. |