<td width="100%" valign="top">
الأفعى بعد ساعات طويلة من معاركة الصخور والأشواك وفي هدأة ظهيرة لاهبة، كان عليّ أن أرتاح قليلاً. وضعتُ قدمي في الساقية التي تمر في ظلال أشجار البستان الوارفة.., اعتكرت الساقية قليلاً ثم ما لبثت أن عادت رقراقة صافية، كما كانت قبل قليل.. تسلل الماء إلى عروقي، شعرت بالانتشاء، فأورقت نفسي أملاً وحلماً وتأملاً,.. امتدت خضرة الأشجار إلى أعماقي.. خيّل إلي أن ساقي المغروستان في الماء قد اكتسبتا صلابة الجذوع العملاقة الناهضة على امتداد الساقية.. ساعات من الشقاء تذوب الآن في الماء، وحبات العرق تجف سريعاً فوق جسد امتزجت فيه صلابة الصخور وخضرة الأشجار. ركضت عيناي في طيّات المياه وامتدت مع الساقية إلى منحدرات الصخور العالية المطلة على بحيرة طبرية.. مسّني شيء من فرح، حين خطر لي أن المياه التي تغسل أقدامي الآن هي ذاتها التي ستصل طبرية بعد قليل، حيث ما تزال رائحة جسدي في طيات البحيرة...، وانفتحت أهدابي لتلف البحيرة بكل ما فيها.. كانت طبرية حمامة بيضاء، تغمس ظلالها في البحيرة، وكانت أشعة الشمس قد حولت سطح الماء إلى قطعة من ذهب، يخيل إليك أن السماء قد ألقتها لتغتسل في الماء.., وتنفتح الذاكرة على تلك الأيام التي كنا نجتاز فيها البحيرة بزوارق آل سعدية.. نحمل إلى طبرية ما لذ وطاب، ونعود محملين بما لذا وطاب,.. لكن الزوارق المعادية التي دخلت للتو عمق البحيرة، أغلقت بوابة الذاكرة بكل ما فيها من غضب ودم وحنين..، أكلت الزوارق أهدابي وهي تتلوى كالأفاعي على سطح البحيرة.. استدرت نحو الساقية، تأملت قدمي.. صارتا أكثر بياضاً، وربما أكبر حجماً. ونبتت عروقي من جديد تحت برودة الماء، مددت يدي نحو الفأس الملقى بجانبي، غمست طرفه في الماء، فصار ساقاً ثالثة كما خيّل إليّ، تأملته قليلاً.., وغرقت في بحر الذكرى والحنين، وما استيقظت إلا على فحيح حار كاد أن يحرق ظهري.. قفزت، تناثرت مياه الساقية خلفي، يدي تقبض على الفأس,.. نظرت متفحصاً المكان، كانت أفعى ضخمة تواصل زحفها وفحيحها، وتكشر عن أنيابها.. لها رأس وحش، وقرون نابتة وسط غابة من حراشف خشنة.. واصَلَتْ اندفاعها نحوي، صار رأسها أمامي تماماً، وذيلها لم يخرج بعد من بين الصخور,.. ركضت أمامها، ناوشتها بفأسي، قذفتها بالحجارة، طاردتني في أنحاء المكان، اختبأتُ خلف الجذوع.., تسلقتُ شجرة عملاقة.. لكن فحيحها ظل يلاحقني، صار ناراً تحاول التهامي..، صرخت بأعلى صوتي، عندما أيقنت أني لن أستطيع مواجهتها وحيداً. هرع الفلاحون من البساتين المجاورة، تعالى لغطهم وتقاطعت فؤوسهم وعصيهم وحجارتهم..، عارَكَتْ الجميع بشراسة بالغة، صارت حجارتنا ترتطم بجسدها ثم ترتد سريعاً بينما يستدير رأسها في الاتجاهات كلها وهي ترسل فحيحاً مرعباً لم اسمع مثله من قبل..، استمر زمن العراك طويلاً..، انقض عليها أحد الفلاحين بضربة من فأسه، ترنحت قليلاً، ثم عادت للتمرد من جديد، تكوّرت كقربة من جلد ثم انقضت علينا مرة أخرى. تعالى صراخنا واشتدت هجماتنا عليها إلى أن تمكنا من حصارها في قعر صخرة عملاقة، وتناوبت فؤوسنا فوق رأسها الوحشي الضخم الذي بدا مهشماً بعد حين.. استرخى طولها، امتدت أمامنا كجراب ضخم، وتلاحقت تقلصاتها كسلسلة من تلال صغيرة تلونها الدماء. قال بعضهم: إن هذه الأفعى تسكن هذا المكان منذ زمن، وهي التي أودت بحياة الكثيرين في هذه المنطقة,.. وقال بعضهم: يبدو أنها زحفت إلينا من غابات بعيدة وهي التي ابتلعت العديد من خراف القرية في أكثر من مكان.. وامتدت حكايا الفلاحين على امتداد زمن القرية وأحوالها. تلاشى لغطنا، وهدأت حركتنا، وعاد الجميع إلى بساتينهم المجاورة. عدت مرة أخرى.. وضعت قدمي في الساقية..، هدأت أنفاسي قليلاً، وعادت خضرة الأشجار تلون أعماقي من جديد.. وامتدت أهدابي كعادتها نحو بحيرة طبرية، كانت الزوارق المعادية ما تزال تتلوى في عمق البحيرة.. نهضت، أمسكت فأسي وظلت عيناي تلوبان بين الزوارق في البحيرة وبين الأفعى التي تتلوى ببطءٍ شديد وهي تدخل في سكون الموت. |