<td width="100%" valign="top">
والدي رجل خطير حبل من ذكريات وأوجاع، والفراش حقل من شوك. وأنا أتقلّب على جمر الذكريات البعيدة.. حاولت النوم فلم أستطع، وكلما خيّل إليّ أني أغلقت نهر الأوجاع عاد للتدفق من جديد. تشاغلت كثيراً بموجودات الغرفة الطينية التي أقطنها منذ خروجنا... حاولت أن أعد الأخشاب المتخاصرة في سقفها مرة من اليمين وأخرى من اليسار... لكنني ما لبثت أن غرقت في تفاصيل كثيرة هي ذاتها التي حاولت الهروب منها،... فهذه الحجرة كانت خيمة، وعندما تمزقت الخيمة نهضت الجدران الطينية إلى أن أصبحت كما هي الآن... وتلك الأخشاب في سقفها كانت أشجاراً جميلة على أطراف السواقي، وفوق ذؤاباتها نامت عصافير كثيرة، وهذه العصافير ربما كانت قادمة من هناك، حاولت الهروب مرة أخرى... نظرت في موجودات الجدران قبالتي صور لأفراد العائلة، وأصدقاء معظمهم ينام الآن في مقبرة المخيم التي اتسعت على وقع الغارات المتلاحقة. [size=12]نهضت من فراشي مرات عديدة... أشعلت أكثر من سيجارة وغرقت عيناي في خيوط الدخان المتصاعدة... كنت أرقبها باهتمام وهي تدخل في طيات الأخشاب وأعواد القصب التي تستر سقف الغرفة فتزداد سواداً. [size=12]قطع شرودي حشرجة المؤذن التي بدأت تصل إليّ مع غبش الفجر المتناثر على النافذة الخشبية الضيقة التي بدت أمامي الآن قطعة فضية موشحة بالسّواد. [size=12]تعلقت عيناي بفضاء النافذة الذي صار أكثر وضوحاً مع ارتفاع الآذان... الله أكبر... الله أكبر... وازداد صحوي أكثر على همهمات والدي وهو ينهض للصلاة... [size=12]رحت أرقبه عبر النافذة التي تطل على أرض الدار المكللة بشجرة التوت الكبيرة التي غرسها في الأسابيع الأولى لدخولنا المخيم، وكان بذلك يحاول استعادة بعض مفرداته الجميلة... فمثل هذه الشجرة كانت تغطي أرض الدار في قريتنا الجميلة... توضأ... صب الماء على يديه المرتجفتين... ـ كنتُ ألحظُ ارتجاف إبريق الوضوء بين يديه ـ ...مسح جبهته ثم حلَّق في فضاء الفجرِ الذي انهمر فوقَ أهدابهِ المتعبة،... ارتفع صوته بالتراتيل المسربلة بحزن ووجع شديدين،... كانت تهدجات صوته تهز أعماقي، امتلأت عيناي بالدموع، واشتعلت أوجاعي من جديد وأنا أستمع لدعائه، ناهضاً يديه وكأنه يحتضن السماء بكل ما فيها، خيّل إليّ أن القدر بين كفيه وهو يتوجع طالباً الرحمة والمغفرة: [size=12]اللهم لا تجعلّ لي قبراً إلا هناك [size=12]ثم أجهش ببكاء مكتوم وتراخت يداه فوق لحيته وشاربيه،... تطامن بصعوبة بالغة،... التقط المصلاة، طوّاها ثم ألقاها على غصن يتدلى نحوه. [size=12]سوّى كوفيته وعقاله،... نظر حوله، تفحص السماء، فرّت بعض العصافير من أعالي الأغصان... تعلقت عيناه بحركة الأغصان التي خلفتها الطيور، اتجه نحو حجرته، كانت عيناي تلامسان أقدامه المتعبة وكان قلبي يقفز كلما مال طوله يميناً أو شمالاً، غاب قليلاً، ظننته عاد للنوم كعادته،... خطر لي أن أعود للفراش مرة أخرى، إلا أن حركته الدائبة ولدّت في داخلي أحاسيس ومشاعر منعتني من مغادرة النافذة. عاد إلى أرض الدار وهو يحمل صرة قماشية عتيقة لم أشاهدها منذ زمن طويل... [size=12]تفحص المكان جيداً ثم تربّع فوق قطعة الخيش الملقاة تحت الشجرة... استدار بناظريه في كل الأرجاء وكأنه يرغب في امتلاك الفجر وحيداً، خيّل إليّ للحظة أن وجهي صار بين أهدابه فانتحيت جانباً ثم عدت لمراقبته من جديد. [size=12]فتح الصرة، كانت أطرافها تأبى التباعد، يدفعها جانباً فتعود للعناق مرة أخرى، وكأنها تصر على التآلف أو كأنها اعتادت الإمساك بمحتوياتها فتيبست خيوطها على هذا النحو. التقط رزمة المفاتيح... هزّها فأحدثت جلبة زاد من صخبها هدوء الفجر، وظل رنينها المبحوح يتوالد في فضاء الدار الضيقة. [size=12]رفعها قليلاً أمام ناظريه، قلّبها باتجاهات مختلفة، وضعها على الأرض وغاب قليلاً، ثم عاد متهادياً وهو يحمل بيديه «بابور الكاز». حلّ فتحته بصعوبة بالغة،... صب الكاز فوق المفاتيح، كانت خيوط الكاز تلتمع مرتجفة كيديه،... أمسك المفاتيح، فركها بين يديه ببطءٍ شديدٍ، كُنت أسمعُ صريرها مخنوقاً بين كفيهِ رفعها قليلاً، وكرر فركها مرات عديدة، تملاَّها جيداً ثم وضعها جانباً... [size=12]اهتزت أكتافه بنحيب مخنوق واخضلت أهدابه بالدموع. اشتعل جسدي بالدماء،... لم أعد قادراً على الاحتمال... خرجت... [size=12]«صباح الخير يا أبي»... مسح أجفانه بطرف كوفيته، حاول التماسك كعادته في مثل هذه المواقف،... امتدت [size=12]يداهُ الراعشتان لرزمة المفاتيح، ترامشت عيناه بين وجهي والمفاتيح قال بصوت خفيض امتزج بحشرجة بادية: [size=12]«والله يا بني، يقلقني صدأ المفاتيح ويبدو أنها لن تلتمع مرة أخرى إلا إذا عانقت أقفالها القديمة»،... قال ذلك وهو يعاود الإمساك بصرته، وقد بدا لي أن أشياء كثيرة داخل الصرة قد اعتراها الصدأ. [size=12]لفني الصمت، ثم حملت خطواتي نحو الفراش وبين الصحو وغيبوبة النوم، اجتاحتني موجة من الضحك... ضحكت حتى البكاء. خطر لي لو أن أسياد العالم اكتشفوا رزمة المفاتيح في صرة والدي، ماذا سيفعلون؟ ربما اعتبروه إرهابياً عتيداً، وربما صارت المفاتيح أشياءٌ أخرى. وربما سيرغمونني على الشهادة بأن والدي رجل خطير، وعندها ستُبثُ تصريحاتي على الهواء مباشرة، وسأصبح خلال ساعات من مشاهير العالم الجديد. وسيزداد الأمر سوءاً إذا تطوع بعض الأخوة لإبلاغهم بأن جدي عندما كان شاباً تشاجر مع الخواجة موسى حين طلب من جدي رفع الفائدة على مبلغ بسيط كان اقترضه لشراء ثور يحرث عليه الأرض التي كانت بحوزته. [size=12]ولا أدري ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ [size=12]تساقط جسدي فوق الفراش وانداحت في داخلي قرقعة المفاتيح وهي تلج أقفالها القديمة. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size] |